القراءة: قرأ أبو جعفر لبَّدا بالتشديد والباقون بالتخفيف وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فكَّ رقبة أو أطعم والباقون فكُّ رقبة بالرفع والإضافة أو إطعام بالتنوين وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة غير عاصم مؤصدة بالهمزة والباقون بغير همزة ويعقوب مختلف عنه وفي الشواذ قراءة الحسن { في يوم ذا مسغبة }
الحجة: لبد يجوز أن يكون واحداً على وزن زُمَّل وجُبّاً ويجوز أن يكون جمعاً فيكون جمع لابد وأما قوله { فك رقبة أو إطعام } فقد قال أبو علي: المعنى فيه وما أدراك ما اقتحام العقبة فك رقبة أو اطعام أي اقتحامها أحد هذين أو هذا الضرب من فعل القرب فلو لم تقدره وتركت الكلام على ظاهره كان المعنى العقبة فك رقبة ولا تكون العقبة الفك لأنه عين والفك حدث والخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى ومثل هذا قوله { { وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة } [الهمزة: 5] أي الحطمة نار الله ومثله { { وما أدراك ماهيه نار حامية } [القارعة: 11] وكذلك قوله: { { وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } [القارعة: 3 - 4] والمعنى القارعة يوم يكون الناس لأن القارعة مصدر فيكون اسم الزمان خبراً عنه فهذه الجمل من الابتداء والخبر تفسير لهذه الأشياء المتقدم ذكرها من اقتحام العقبة والحطمة والقارعة.
كما أن قوله تعالى { لهم مغفرة وأجر عظيم } تفسير للوعد
وقوله { فلا اقتحم العقبة } معناه فلم يقتحم وإذا كانت لا بمعنى لم لم يلزم تكريرها كما لا يلزم التكرير مع لم فإن تكررت في موضع نحو فلا صدَّق ولا صلّى فهو كتكرير لم في قوله { { لم يسرفوا ولم يقتروا } [الفرقان: 67] وقوله { ثم كان من الذين آمنوا } أي كان مقتحم العقبة وفكاك الرقبة من الذين آمنوا فإنه إذا لم يكن منهم لم ينفعه قربه وجاز وصف اليوم بقوله { ذي مسغبة } كما جاز أن يقال ليله نائم ونهاره صائم ونحو ذلك.
ومن قرأ فكَّ رقبة أو أطعم فإنه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل تفسيراً لاقتحام العقبة فإن قلت أن هذا الضرب لم يفسّر بالفعل وإنما فسّر بالابتداء والخبر كقوله { { نار الله الموقدة } [الهمزة: 6] وقوله { { نار حامية } [القارعة: 11] فهلا رجحت القراءة الأخرى قيل إنه قد يمكن أن يكون كذبت ثمود وعاد بالقارعة تفسيراً لقوله { وما أدراك ما القارعة } على المعنى وقد جاء أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم وفسّر المثل بقوله { خلقه من تراب } وزعموا أن أبا عمرو احتج بقوله ثم كان من الذين آمنوا لقراءة فكَّ رقبة كأنه لما كان فعلاً وجب أن يكون المعطوف عليه مثله وقد يجوز أن يكون ذلك كالقطع من الأول والاستئناف كأنه أعلم أن فكاك الرقبة من الرق بأن كان من الذين آمنوا لأنه بالإيمان يحرز ثواب ذلك ويحوزه فإذا لم ينضم الإيمان إلى فعل القرب التي تقدم ذكرها لم ينفع ذلك والتقدير ثم كونه من الذين آمنوا فجاء هذا مجيء قوله سبحانه { { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا } [آل عمران: 86] يريد وأن شهدوا.
وأوصدت الباب وأصدته لغتان فمن لم يهمز موصدة احتمل أمرين أحدهما: أن يكون على لغة من قال أوصدت والوجه الآخر: أن يكون من آصدت ثم خففت الهمزة فقلبت واواً كما جاء في جونة وتووي ومن همز مؤصدة فهو من أصدت وأبو عمرو يترك الهمزة الساكنة ويبدلها واواً إذا انضمّ ما قبلها نحو يؤمنون ومؤمنين ويبدلها ألفاً إذا انفتح ما قبلها ياء إذا انكسر ما قبلها ولا يبدلها في نحو قوله { مؤصدة } بل يهمزها لأن مؤصدة بالهمز هي لغة من قال آصدت الباب والباب مؤصد وأبو عمرو على هذه اللغة فلا يترك الهمز إذا احتاج أن يترك لغته وينتقل عنها إلى لغة أخرى.
وكذلك لا يترك الهمز في قوله { تؤوي إليك } لو أبدلها واواً وبعدها واو اجتمع واوان واجتماعهما أثقل من الهمزة وكذلك إذا كان الفعل مجزوماً ولامها همزة بقّاها على حالها ولا يبدلها بتَّة نحو قوله { { إن تمسسكم حسنة تسؤهم } [آل عمران: 120] لأنه لو أبدلها واواً وجب حذفها بالجزم كما تقول في يغزو لم يغز كذلك { { إن يشأ يذهبكم } [النساء: 133 والأنعام: 133 وإبراهيم: 19 وفاطر: 16] لا يبدلها ألفاً لهذا المعنى أيضاً وكذلك قوله أثاثاً ورئياً لا يقبلها ياء لأنه يشتبه بالري من روي من الماء فهذه أربعة أحوال لا يترك الهمز فيها إذا احتاج إلى ترك لغته وأن ينتقل إلى لغة أخرى وإذا كان الهمز في موضع الجزم وإذا اشتبه المعنى في الكلمة بكلمة أخرى وإذا كان ترك الهمزة يؤدي إلى اجتماع الواوين فأفهم ذلك
ومن قرأ ذا مسغبة جعله مفعول إطعام ويتيماً بدل منه ويجوز أن يكون يتيماً وصفاً لذا مسغبة كقولك رأيت كريماً عاقلاً وجاز وصف الصفة الذي هو كريم لأنه لما لم يجر على الاسم الموصوف أشبه الاسم.
اللغة: الحل الحال وهو الساكن والحلّ الحلال ورجل حلّ وحلال أي محل والكبد في اللغة شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتدَّ ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتدّ وتكبد الدم إذا صار كالكبد قال لبيد:
يا عَيْـنُ هـَـلاَّ بَكَيْــتَ أرْبـَدَ إذْ قُمْنَا وَقامَ الْخُصُومُ في كَبَدي
واللبد الكثير مأخوذ من تلبد الشيء إذا تراكب بعضه على بعض ومنه اللبد يقال ما له سَبد ولا لَبَد وأصل النجد العلو وسمي نجد نجداً لعلوه عن انخفاض تهامة وكل عال من الأرض نجد والجمع نجود قال امرؤ القيس:
غَداةَ غَدَوْا فَسالِكٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ وَآخَرُ مِنْهُمْ جازِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
أراد طريقه في ارتفاع وكبكب جبل وفي المثل أَنْجَدَ مَنْ رَأَى حَضَناً ورجل نجد بين النجدة إذا كان جلداً قوياً لاستعلائه على قرنِه واستنجدت فلاناً فأنجدني أي استعنته للاستعلاء على قرني فأعانني وشبه طريق الخير والشر بالطريقين العاليين لظهور ما فيهما والاقتحام الدخول على الشدة بالضيق يقال اقتحم وتقحم وأقحمه وقحمه غيره والعقبة الطريقة التي ترتقي على صعوبة ويحتاج فيها إلى معاقبة الشدة بالضيق والمخاطرة. وقيل: العقبة الثنية الضيقة في رأس الجبل يتعاقبها الناس فشبَّهت النفقة في وجوه البّر بها وعاقب الرجل صاحبه إذا صار في موضعه بدلاً منه والفكّ فرق يزيد المنع ويمكن معه أمر لم يكن متمكناً كفكّ القيد والغل لأنه يزول به المنع ويمكن به تصرف لم يمكن قبل ففكّ الرقبة فرق بينها وبين حال الرق بإيجاب الحرية وإبطال العبودية والمسغبة المجاعة سغب يسغب سغباً فهو ساغب إذا جاع قال جرير:
تُعَلِّلُ وَهْيَ ساغِبَةٌ بَنِيها بِأَنْفَاسِ مِنَ الشَّبمِ الْقَراحِ
والمقربة القرابة ولا يقال فلان قرابتي وإنما يقال ذو قرابتي لأنه مصدر كما قال الشاعر:
يَبْكِي الْغَرِيبُ عَلَيْهِ لَيْسَ يَعْرِفُهُ وَذُو قِرابَتِــهِ فِي الْحَيِّ مَسْرُورُ
والمتربة الحاجة الشديدة من قولهم ترب الرجل إذا افتقر.
المعنى: { لا أقسم بهذا البلد } أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة وقد تقدَّم بيان قوله لا أقسم في سورة القيامة { وأنت حلّ بهذا البلد } أي وأنت يا محمد مقيم به وهو محلّك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلَّ به من الرسول الداعي إلى توحيده وإخلاص عبادته وبيان أن تعظيمه له وقسمه به لأجله صلى الله عليه وسلم ولكونه حالاً فيه كما سميت المدينة طيبة لأنها طابت به حيّاً وميتاً. وقيل: معناه وأنت محل بهذا البلد وهو ضدّ المحرم والمراد وأنت حلال لك قتل من رأيت به من الكفار وذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة فأحلَّها الله له صلى الله عليه وسلم حتى قاتل وقتل.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد من بعدي ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار" عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء وهذا وعد من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحل له مكة حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده ويكون بها حلاً يصنع بها ما يريد من القتل والأسر وقد فعل سبحانه ذلك فدخلها غلبة وكرهاً وقتل ابن أخطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن ضبابة وغيرهما..
وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حل فيه منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلم يبن للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك عن أبي مسلم وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) قال كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمداً صلى الله عليه وسلم فيه فقال لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد يريد أنهم استحلوك فيه فكذَّبوك وشتموك وكانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليدهم إياه فاستحلوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يستحلوا من غيره فعاب الله ذلك عليهم.
ثم عطف على القسم فقال { ووالد وما ولد } يعني آدم (ع) وذريته عن الحسن ومجاهد وقتادة وذلك أنهم خليقة أعجب من هذه الخليقة وهم عمار الدنيا. وقيل: آدم وما ولد من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم عن أبي عبد الله (ع). وقيل: يريد إبراهيم (ع) وولده عن ابن أبي عمران الجوني لما أقسم بالبلد أقسم بإبراهيم فإنه بانيه وبأولاده العرب إذ هم المخصصون بالبلد. وقيل: يعني كل والد وولده عن ابن عباس والجبائي. وقيل: ووالد من يولد لهُ وما ولد يعني العاقر عن ابن جبير فيكون ما نفياً وهو بعيد لأنه يكون تقديره وما ما ولد فحذف ما الأولى التي تكون موصولة أو موصوفة.
{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } أي في نصب وشدة عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقال يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وقال ابن آدم: لا يزال يكابد أمراً حتى يفارق الدنيا. وقيل: في شدة خلق من حمله وولادته ورضاعه وفطامه ومعاشه وحياته وموته ثم إنه سبحانه لم يخلق خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم وهو أضعف الخلق. وقيل: في كبد أي قائماً على قدميه منتصباً وكل شيء خلق فإنه يمسي مكباً إلا الإنسان فإنه خلق منتصباً فالكبد الاستواء والاستقامة وهو رواية مقسم عن ابن عباس وهو قول مجاهد وأبي صالح وعكرمة. وقيل: يريد شدة الأمر والنهي أي خلقناه ليعبدنا بالعبادات الشاقة مثل الاغتسال من الجنابة في البرد والقيام إلى الصلاة من النوم فينبغي له أن يعلم أن الدنيا دار كبد ومشقة والجنة دار الراحة والنعمة.
{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } معناه أيظن هذا الإنسان أنه لن يقدر على عقابه أحد إذا عصى الله تعالى وركب القبائح فبئس الظن ذلك وهذا استفهام إنكار أي لا يظنن ذلك. وقيل: معناه أيحسب هذا المغتر بماله أن لا يقدر عليه أحد يأخذ ماله عن الحسن. وقيل: أيحسب أن لا يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفي ماذا أنفقه عن قتادة قيل: إنه يعني أبا الأسد بن كلدة وهو رجل من جمح كان قوياً شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجره العشرة من تحته فينقطع ولا يبرح من مكانه عن الكلبي.
ثم أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان فقال { يقول أهلكت مالاً لبداً } أي أنفقت مالاً كثيراً في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم يفتخر بذلك. وقيل: هو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه أذنب ذنباً فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يكفّر فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد عن مقاتل.
{ أيحسب أن لم يره أحد } فيطالبه من أين اكتسبه وفي ماذا أنفقه عن قتادة وسعيد بن جبير وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة عن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين جمعه وفي ماذا أنفقه وعن عمله ماذا عمل به وعن حبّنا أهل البيت" . وقيل: إنه كان كاذباً لم ينفق ما قاله فقال الله سبحانه أيظن أن الله تعالى لم ير ذلك فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق عن الكلبي.
ثم ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها عليه ليستدل بها على توحيده فقال { ألم نجعل له عينين } ليبصر بهما آثار حكمته { ولساناً وشفتين } لينطق بهما فيبين باللسان ويستعين بالشفتين على البيان قال قتادة: نعم الله عليك متظاهرة فقررك بها كيما تشكر وروى عبد الحميد المدائني عن أبي حازم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقول يا بن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق" .
{ وهديناه النجدين } أي سبيل الخير وسبيل الشر عن علي (ع) وابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل: معناه أرشدناه للثديين عن سعيد بن المسيب والضحاك وفي رواية أخرى عن ابن عباس روي أنه قيل لأمير المؤمنين (ع) أن ناساً يقولون في قوله { وهديناه النجدين } أنهما الثديان فقال لا هما الخير والشر وقال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس هما نجدان نجد الخير ونجد الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" .
ولو قيل كيف يكون نجد الشر مرتفعاً كنجد الخير ومعلوم أنه لا رفعة في الشر والجواب: أن الطريقين جميعاً ظاهران باديان للمكلفين فسمّى سبحانه كلاهما نجداً لظهوره وبروزه ويجوز أن يكون سمى طريق الشر نجداً من حيث يحصل في اجتناب سلوكه الرفعة والشرف كما يحصل ذلك في طريق الخير. وقيل أيضاً: إنه على عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتفقا على بعض الوجوه فيجري لفظ أحدهما على الآخر كقولهم القمرين في الشمس والقمر قال الفرزدق:
أَخَذْنــا بِآفاقِ السَّمــاءِ عَلَيْكُم لَنا قَمَراها وَالنُّجُومُ الطَّوالِعُ
ونظائره كثيرة { فلا اقتحم العقبة } فيه أقوال أحدها: أن المعنى فلم يقتحم هذا الإنسان العقبة ولا جاوزها وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظة لا كما قال سبحانه فلا صدَّق ولا صلّى أي لم يصدق ولم يصل وكما قال الحطيئة:
وإِنْ كانَتِ النَّعْماءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِها وَإنْ أَنْعَمُوا لا كَدَّرُوها وَلا كَدُوا
وقد جاء من غير تكرار في نحو قوله:
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمّا وَأَيُّ عَبْــــدٍ لَــكَ لا أَلَمّا
أي لم يلمّ بذنب والآخر: أن يكون على وجه الدعاء عليه بأن لا يقتحم العقبة كما يقال لا غفر الله له ولا نجا ولا سلم والمعنى لا نجا من العقبة ولا جاوزها والثالث: أن المعنى فهلا أقتحم العقبة أو أفلا اقتحم العقبة عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم قالوا ويدلُّ على ذلك قوله تعالى { ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام قال المرتضى قدس الله روحه: هذا الوجه ضعيف جداً لأن الكلام خال من لفظ الاستفهام وقبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله:
ثُــمَّ قالُــوا تُحِبـُّـها قُلْتُ بَهْراً عَدَدَ الرَّمْلِ وَالحِصى وَالتُّرابِ
وأما قولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام فليس بشيء لأن المعنى فلا أقتحم العقبة ثم كان من الذين آمنوا أي لم يقتحم ولم يؤمن وأما المراد بالعقبة ففيه وجوه.
أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال الخير والبرّ فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود فكأنه قال لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام وهو قوله { وما أدراك ما العقبة } أي ما اقتحام العقبة
ثم ذكره فقال { فك رقبة } وهو تخليصها من أسار الرق إلى آخره.
وثانيها: أنها عقبة حقيقية قال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله عز وجل وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون وأنا أريد أن أخفف عنكم لتلك العقبة" وعن ابن عباس أنه قال هي النار نفسها وروي عنه أيضاً أنها عقبة في النار.
وثالثها: ما روي عن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط يضرب على جهنم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلاً وصعوداً وهبوطاً وإن في جنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان فمن بين مسلم وناج ومخدوش في النار منكوس فمن الناس من يمرّ عليه كالبرق الخاطف ومنهم من يمرّ عليه كالريح العاصف ومنهم من يمرّ عليه كالفارس ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يعدو ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يسير ومنهم من يزحف زحفاً ومنهم الزالون والزالات ومنهم من يكَردس في النار واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء.
وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قاله سبحانه { وما أدراك } فإنه أخبره به وكل شيء قال فيه وما يدريك فإنه لم يخبره به وروي مرفوعاً عن البراء بن عازب قال "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علّمني عملاً يدخلني الجنة؟ قال: إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة أعتق النسمة وفكّ الرقبة فقال أوليسا واحداً قال: لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكفّ لسانك إلا من الخير" . وقيل: إن معنى فك رقبة أن يفكّ رقبة من الذنوب بالتوبة عن عكرمة. وقيل: أراد فك نفسه من العقاب بتحمل الطاعات عن الجبائي.
{ أو إطعام في يوم ذي مسغبة } أي ذي مجاعة قال ابن عباس: يريد بالمسغبة الجوع وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أشبع جائعاً في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة لا يدخلها إلا من فعل مثل ما فعل" وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان" وروي عن محمد بن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي الحسن الرضا (ع) إن لي ابناً شديد العلة قال مره يتصدق بالقبضة من الطعام بعد القبضة فإن الله تعالى يقول { فلا اقتحم العقبة } وقرأ الآيات
{ يتيماً ذا مقربة } أي ذا قربى من قرابة النسب والرحم وهذا حثّ على تقديم ذوي القرابة المحتاجين على الأجانب في الإطعام والإنعام { أو مسكيناً } أي فقيراً { ذا متربة } قد لصق بالتراب من شدة فقره وضرّه ورَوى مجاهد عن ابن عباس أنه قال هو المطروح في التراب لا يقيه شيء وهذا مثل قولهم فقير مدقع مأخوذ من الدقعاء وهو التراب.
ثم بيَّن سبحانه أن هذه القربة إنما تنفع مع الإيمان فقال { ثم كان من الذين آمنوا } أي ثم كان مع هذا من جملة المؤمنين الذين استقاموا على إيمانهم { وتواصوا بالصبر } على فرائض الله والصبر عن معصية الله أي وصى بعضهم بعضاً بذلك { وتواصوا بالمرحمة } أي وأوصى بعضهم بعضاً بالمرحمة على أهل الفقر وذوي المسكنة والفاقة. وقيل: تواصوا بالمرحمة فيما بينهم فرحموا الناس كلهم.
{ أولئك أصحاب الميمنة } يؤخذ بهم ناحية اليمين ويأخذون كتبهم بأيمانهم عن الجبائي. وقيل: هم أصحاب اليمن والبركة على أنفسهم عن الحسن وأبي مسلم { والذين كفروا بآياتنا } أي بحججنا ودلالاتنا وكذَّبوا أنبياءنا { هم أصحاب المشئمة } أي يأخذون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال. وقيل: إنهم أصحاب الشؤم على أنفسهم { عليهم نار مؤصدة } أي مطبقة عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: يعني أن أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لهم باب ولا يخرج عنها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد عن مقاتل.
النظم: وجه اتصال قوله سبحانه { ألم نجعل له عينين } بما قبله أن المعنى كيف يحسب هذا الإنسان أن الله سبحانه لا يراه وهو الذي خلقه وجعل له عينين وكذا وكذا. وقيل: إنه اتصل بقوله { لقد خلقنا الإنسان في كبد } أي اختبرناه حيث كلفناه ثم أزحنا علته بأن جعلنا له عينين. وقيل: إنه يتصل بقوله { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } والمعنى كيف يظن ذلك وقد خلقناه وخلقنا أعضاءه التي يبصر الدلائل بها ويتكلم بها.