التفاسير

< >
عرض

وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ
١
وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ
٢
وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
٤
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ
٥
وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٦
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ
٧
وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ
٨
وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٩
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ
١٠
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ
١١
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة علي بن أبي طالب (ع) وابن مسعود وأبي الدرداء وابن عباس { والنهار إذا تجلى } و { خلق الذكر والأنثى } بغير ما وروي ذلك عن أبي عبد الله (ع).
الحجة: قال ابن جني: في هذه القراءة شاهد لما أخبرنا به أبو بكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى قراءة بعضهم { وما خلق الذكر والأنثى } بالجرّ وذلك أنه جرّه لكونه بدلاً من ما فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ذلك.
اللغة: شتى أي متفرق على تباعد ما بين الشيئين جداً ومنه شتان أي بعد ما بينهما كبعد ما بين الثرى والثريا وتشتت أمر القوم وشتتهم رب الزمان واليسرى تأنيث الأيسر والعسرى تأنيث الأعسر من اليسر والعسر والتلظي تلهب النار بشدة الإيقاد وتلظت النار تتلظى فحذف إحدى التاءين تخفيفاً وقرأ ابن كثير تلظى بتشديد التاء أدغم إحدى التاءين في الأخرى والتجنب تصيير الشيء في جانب من غيره.
الإعراب: وما خلق الذكر والأنثى أن جعلت ما مصدرية فهو في موضع الجر والتقدير وخلق الذكر أي وخلقه الذكر والأنثى وأن جعلتها بمعنى من فكذلك والحسنى صفة حذف موصوفها أي وصدق بالخصلة الحسنى وكذا اليسرى والعسرى. التقدير فيهما للطريقة اليسرى وللطريقة العسرى ويتزكى في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون منصوب الموضع أو مرفوعاً على تقدير حذف أن أي لأن يتزكى فحذف اللام فصار أن يتزكى ثم حذف أن أيضاً كما في قول طرفة:

أَلا أَيُّهذَا الزّاجِري أَحْضُر الْوَغى وَأَنْ أَشْهَـدَ اللَّذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدي

روي أحضر بالرفع والنصب وما لأحد عنده من نعمة تجزى من نعمة الجار والمجرور في موضع رفع, ومن مزيدة لتأكيد النفي وإفادة العموم وتجزى جملة مجرورة الموضع لكونها صفة لنعمة والتقدير من نعمة مجزية وإن شئت كانت مرفوعة الموضع على محل كونه من نعمة والتقدير وما لأحد عنده نعمة مجزية وابتغاء منصوب لأنه مفعول له والعامل فيه يؤتى أي وما يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه أي لطلب ثواب ربه ولم يفعل ذلك مجازاة ليد قد أسديت إليه.
المعنى: { والليل إذا يغشى } أقسم الله سبحانه بالليل إذا يغشى بظلمته النهار. وقيل: إذا يغشى بظلمته الأفق وجميع ما بين السماء والأرض والمعنى إذا أظلم وادلهمَّ وأغشى الأنام بالظلام لما في ذلك من الهول المحرك للنفس بالاستعظام { والنهار إذا تجلى } أي بان وظهر من بين الظلمة وفيه أعظم النعم إذ لو كان الدهر كله ظلاماً لما أمكن الخلق طلب معايشهم ولو كان ذلك كله ضياء لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم فلذلك كرَّر سبحانه ذكر الليل والنهار في السورتين لعظم قدرهما في باب الدلالة على مواقع حكمته.
{ وما خلق الذكر والأنثى } أي والذي خلق عن الحسن والكلبي وعلى هذا يكون ما بمعنى من. وقيل: معناه خلق الذكر والأنثى عن مقاتل قال مقاتل والكلبي: الذكر والأنثى آدم وحواء (ع) وقيل: أراد كل ذكر وأنثى من الناس وغيرهم.
{ إن سعيكم لشتى } هذا جواب القسم والمعنى إن أعمالكم لمختلفة فعمل للجنة وعمل للنار عن ابن عباس. وقيل: إن سعيكم لمتفرق فساع في فكاك رقبته وساع في هلاكه وساع للدنيا وساع للعقبى.
وروى الواحدي بالإسناد المتصل المرفوع عن عكرمة عن ابن عباس
"أن رجلاً كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم فإن وجدها في فيّ أحدهم أدخل أصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة فقال تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة فقال له الرجل إن لي نخلاً كثيراً وما فيه نخلة أعجب إليَّ تمرة منها.
قال ثم ذهب الرجل فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها قال نعم فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له أشعرت أن محمداً أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له يعجبني تمرتها وإن لي نخلاً كثيراً فما فيه نخلة أعجب إليَّ تمرة منها فقال له الآخر أتريد بيعها فقال لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطى قال فما مُناك قال أربعون نخلة فقال الرجل جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ثم سكت عنه فقال له أنا أعطيك أربعين نخلة فقال له: اشهد إن كنت صادقاً فمرّ إلى أناس فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن النخلة قد صارت في ملكي فهي لك فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدار فقال له: النخلة لك ولعيالك"
فأنزل الله تعالى { والليل إذا يغشى } السورة وعن عطاء قال اسم الرجل أبو الدحداح.
{ فأما من أعطى واتقى } هو أبو الدحداح وأما من بخل واستغنى وهو صاحب النخلة وقوله { لا يصلاها إلا الأشقى } وهو صاحب النخلة وسيجنبها الأتقى هو أبو الدحداح ولسوف يرضى إذا دخل الجنة قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمرُّ بذلك الحش وعذوقه دانية فيقول عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة وعن ابن الزبير قال: إن الآية نزلت في أبي بكر لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال وعامر بن فهيرة وغيرهما وأعتقهم والأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها في كل من يعطي حق الله من ماله وكل من يمنع حقه سبحانه.
وروى العياشي ذلك بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (ع) قال فأما من أعطى مما أتاه الله واتقى وصدق بالحسنى أي بأن الله يعطي بالواحد عشراً إلى كثير من ذلك وفي رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد فسنيسره لليسرى قال لا يريد شيئاً من الخير إلا يسره الله له وأما من بخل بما أتاه الله واستغنى وكذب بالحسنى بأن الله يعطي بالواحد عشراً إلى أكثر من ذلك وفي رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد فسنيسره لليسرى قال لا يريد شيئاً من الشر إلا يسره الله له قال ثم قال أبو جعفر (ع): وما يغني عنه ماله إذا تردى أما والله ما تردى من جبل ولا تردى من حائط ولا تردى في بئر ولكن تردى في نار جهنم فعلى هذا يكون قوله { وصدق بالحسنى } معناه بالعدة الحسنى وهو قول ابن عباس وقتادة وعكرمة. وقيل: بالجنة التي هي صواب المحسنين عن الحسن ومجاهد والجبائي.
وقوله { فسنيسره لليسرى } معناه فسنهون عليه الطاعة مرة بعد مرة. وقيل: معناه سنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى أي سنسهل عليه فعل الطاعة حتى يقوم إليها بجدّ وطيب نفس. وقيل: معناه سنيسره للخصلة اليسرى والحالة اليسرى وهو دخول الجنة واستقبال الملائكة إياه بالتحية والبشرى.
وقوله { وأما من بخل } أي ضنَّ بماله الذي لا يبقى له وبخل بحق الله فيه { واستغنى } أي التمس الغنى بذلك المنع لنفسه. وقيل: معناه أنه عمل عمل من هو مستغن عن الله وعن رحمته { وكذب بالحسنى } أي بالجنة والثواب وبالوعد والخلف { فسنيسره للعسرى } هو على مزاوجة الكلام والمراد به التمكين أي نخلي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب والعقوبة.
{ وما يغني عنه ماله إذا تردى } أي سقط في النار عن قتادة وأبي صالح. وقيل: إذا مات وهلك عن مجاهد. وقيل للحسن: إن فلاناً جمع مالاً فقال هل جمع لذلك عمراً قالوا لا قال فما تصنع الموتى بالأموال.
{ إن علينا للهدى } معناه أن علينا لبيان الهدى بالدلالة عليه فأما الاهتداء فإليكم أخبر سبحانه أن الهدى واجب عليه ولو جاز الإضلال عليه لما وجب الهداية قال قتادة: معناه أن علينا بيان الطاعة والمعصية { وإن لنا للآخرة والأولى } وإن لنا ملك الآخرة وملك الأولى فلا يزيد في ملكنا اهتداء من اهتدى ولا ينقص منه عصيان من عصى ولو نشاء لمنعناهم عن ذلك قسراً وجبراً ولكن التكليف اقتضى أن نمنعهم بياناً وأمراً وزجراً.
ثم خوَّف سبحانه العادل عن الهدى فقال { فأنذرتكم ناراً تلظى } أي خوَّفتكم ناراً تتلهب وتتوهج وتتوقد { لا يصلاها } أي لا يدخل تلك النار ولا يلزمها { إلا الأشقى } وهو الكافر بالله { الذي كذب } بآيات الله ورسله { وتولى } أي أعرض عن الإيمان { وسيجنّبها } أي سيجنب النار ويجعل منها على جانب { الأتقى } المبالغ في التقوى { الذي يؤتي ماله } أي ينفقه في سبيل الله { يتزكى } يطلب أن يكون عند الله زكياً لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة.
قال القاضي: قوله { لا يصلاها إلا الأشقى } الذي كذب وتولى لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكافر على ما يقوله الخوارج وبعض المرجئة وذلك لأنه نكر النار المذكورة ولم يعرفها فالمراد بذلك أن ناراً من جملة النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنيران دركات على ما بيَّنه سبحانه في سورة النساء في شأن المنافقين فمن أين عرف أن غير هذه النار لا يصلاها قوم آخرون وبعد فإن الظاهر من الآية يوجب أن لا يدخل النار إلا من كذب وتولى وجمع بين الأمرين فلا بدَّ للقوم من القول بخلافه لأنهم يوجبون النار لمن يتولى عن كثير من الواجبات وإن لم يكذب. وقيل: إن الأتقى والأشقى المراد بهما التقي والشقي كما قال طرفة:

تَمَنّى رِجالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإنْ أَمُتْ فَتِلْـكَ سَبِيــلٌ لَسْــتُ فِيها بأَوْحَدِ

أراد بواحد ثم وصف سبحانه الأتقى فقال { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } أي ولم يفعل الأتقى ما فعله من إيتاء المال وإنفاقه في سبيل الله ليد أسديت إليه يكافىء عليها ولا ليد يتخذها عند أحد من الخلق { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي ولكنه فعل ما فعل يبتغي به وجه الله ورضاه وثوابه وإنما ذكر الوجه طلباً لشرف الذكر والمعنى إلا الله ولابتغاء ثواب الله { ولسوف يرضى } أي ولسوف يعطيه الله من الجزاء والثواب ما يرضى به فإنه يعطيه كل ما تمنى ولم يخطر بباله فيرضى به لا محالة.