التفاسير

< >
عرض

وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ
١
وَطُورِ سِينِينَ
٢
وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ
٣
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
٤
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ
٥
إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
٦
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ
٧
أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ
٨
-التين

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: التقويم تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف والتعديل يقال قوَّمه فاستقام وتقوم.
المعنى: { والتين والزيتون } أقسم الله سبحانه بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يعصر منه الزيت عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وهو الظاهر وإنما أقسم بالتين لأنه فاكهة مخلصة من شائب التنغيص وفيه أعظم عبرة لأنه عزَّ اسمه جعلها على مقدار اللقمة وهيَّأها على تلك الصفة إنعاماً على عباده بها وقد روى أبو ذر
"عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في التين: لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه هي لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النفوس" وأما الزيتون فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة وهو أدام والتين طعام فيه منافع كثيرة. وقيل: التين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس عن قتادة.
وقال عكرمة: هما جبلان وإنما سميا لأنهما ينبتان بهما. وقيل: التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس عن كعب الأحبار وعبد الرحمن بن غنيم وابن زيد. وقيل: التين مسجد نوح الذي بني على الجودي والزيتون بيت المقدس عن ابن عباس. وقيل: التين المسجد الحرام والزيتون الأقصى عن الضحاك.
{ وطور سينين } يعني الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى عن الحسن وسينين وسيناء واحد. وقيل: إن سينين معناه المبارك الحسن وكأنه قيل جبل الخير الكثير لأنه إضافة تعريف عن مجاهد وقتادة. وقيل: معناه كثير النبات والشجر عن عكرمة. وقيل: إن كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين بلغة النبط عن مقاتل قال عمرو بن ميمون: سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب والتين والزيتون وطور سيناء قال فظننت أنه إنما قرأها ليعلم حرمة البلد وروي ذلك عن موسى بن جعفر (ع) أيضاً.
{ وهذا البلد الأمين } يعني مكة البلد الحرام يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإِسلام فالأمين يعني المؤمن من يدخله. وقيل: بمعنى الأمن ويؤيده قوله
{ { إنا جعلنا حرماً آمناً } [العنكبوت: 67] قال الشاعر:

أَلَمْ تَعْلَمي يا أَسْمَ وَيْحَكِ أَنَّنِي حَلَفْـتُ يَمِينـاً لا أَخُونُ أَمِيني

يريد آمني { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } هذا جواب القسم وأراد جنس الإِنسان وهو آدم وذريته خلقهم الله في أحسن صورة عن إبراهيم ومجاهد وقتادة. وقيل: في أحسن تقويم أي منتصب القامة وسائر الحيوان مكبّ على وجهه إلا الإِنسان عن ابن عباس. وقيل: أراد أنه خلقهم على كمال في أنفسهم واعتدال في جوارحهم وأبانهم عن غيرهم بالنطق والتمييز والتدبير إلى غير ذلك مما يختص به الإنسان وفي ذلك إشارة أيضاً إلى حال الشباب.
{ ثم رددناه أسفل سافلين } يريد إلى الخوف وأرذل العمر ونقصان العقل والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة. وقيل: معناه ثم رددناه إلى النار عن الحسن ومجاهد وابن زيد والجبائي والمعنى إلى أسفل الأسفلين لأن جهنم بعضها أسفل من بعض وعلى هذا فالمراد به الكفار أي خلقناهم في أحسن خلقة أحراراً عقلاء مكلفين فكفروا فرددناهم إلى النار في أقبح صورة.
ثم استثنى فقال { إلا الذين آمنوا } أي صدقوا بالله { وعملوا الصالحات } أي أخلصوا العبادة لله وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة فإن هؤلاء لا يردون إلى النار ومن قال بالقول الأول قال إن المؤمن لا يرد إلى الخرف وإن عمر عمراً طويلاً قال إبراهيم: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز معه من العمل كتب له ما كان يعمل وهو قوله { فلهم أجر غير ممنون } وقال عكرمة: من ردّ منهم إلى أرذل العمر كتب له صالح ما كان يعمل في شبابه وذلك أجر غير ممنون وعن ابن عباس قال ومن قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله { ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال إلا الذين قرؤوا القرآن.
وفي الحديث عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه فإن عمل سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسددانه فإذا بلغ أربعين سنة في الإِسلام أمنه الله من البلايا الثلاث الجنون والجذام والبرص فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه فإذا بلغ ستين رزقه الإِنابة إليه فيما يجب فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ ثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه في أهل بيته وكان اسمه أسير الله في الأرض فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئاً كتب الله له بمثل ما كان يعمل في صحته من الخير وإن عمل سيئة لم تكتب عليه" وأقول: لو صح الخبر فإنما لا تكتب عليه السيئة لزوال عقله ونقصان تمييزه في ذلك الوقت.
وقوله { غير ممنون } أي غير منقوص. وقيل: غير مقطوع عن أبي مسلم. وقيل: غير محسوب عن مجاهد. وقيل: غير مكدّر بما يؤذي ويغمّ عن الجبائي.
{ فما يكذبك بعد بالدين } معناه أيّ شيء يكذبك أيها الإِنسان بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الجزاء والحساب عن الحسن وعكرمة وأبي مسلم والمراد ما يحملك على أن لا تتفكر في صحتك وشبابك وهرمك فتعتبر وتقول إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني ويجازيني بعملي فيكون قوله فما يكذبك يعني به ما الذي يجعلك تكذب. وقيل: إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الإِسلام عن مجاهد وقتادة أي لا شيء يكذبك.
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } هذا تقرير للإِنسان على الاعتراف بأنه تعالى أحكم الحاكمين في صنائعه وأفعاله وأنه لا خلل في شيء منها ولا اضطراب فكيف يترك هذه الخلائق ويهملهم فلا يجازيهم. وقيل: معناه أليس الله بأقضى القاضين فيحكم بينك يا محمد وبين أهل التكذيب بك عن مقاتل وقال قتادة: و
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ختم هذه السورة قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" .
النظم اتصل قوله { أليس الله بأحكم الحاكمين } بما قبله من ذكر الدين والجزاء على سبيل التنبيه على الإِعادة فإن الحكيم إذا كلف وأمر ونهى وخلى بين الظالم والمظلوم فلا بدَّ من المجازاة والإنصاف والانتصاف فإذا لم يكن ذلك في الدنيا فلا بدَّ من البعث فإن أحكم الحاكمين لا يجوز عليه الإِخلال بما ذكرناه.