التفاسير

< >
عرض

ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ
١
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ
٢
ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ
٣
ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ
٤
عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
٥
كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ
٦
أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ
٧
إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ
٨
أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ
٩
عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ
١٠
أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ
١١
أَوْ أَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ
١٢
أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٣
أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ
١٤
كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ
١٥
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
١٦
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ
١٧
سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ
١٨
كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب
١٩
-العلق

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: العلق جمع علقة وهي القطعة الجامدة من الدم التي تعلق لرطوبتها بما تمرّ به فإذا جفّت لا تسمى علقة والعلق ضرب من الدود أسود لأنه يعلق على العضو فيمتص منه الدم والرجعى الرجوع والمرجع واحد والسفع الجذب الشديد يقال سفعت بالشيء إذا قبضت عليه وجذبته جذباً شديداً وسفعته النار والشمس إذا غيّرت وجهه إلى حال تشويه ومنه الحديث: "ليصيبن أقواماً سفع من النار" أي تشويه خلقة والناصية شعر مقدم الرأس سميت بذلك لأنها متصلة بالرأس من قولهم ناصى يناصي مناصاة إذا وصل قال الراجز:

قِـــيٌّ تُناصِيهـــا بِـــــــــــلادٌ قِـــيُّ

النادي مجلس أهل النادي ثم كثر فسمي كل مجلس نادياً وواحد الزبانية زبينة عن أبي عبيدة وزبنى عن الكسائي وزابن عن الأخفش أخذ من الزبن وهو الدفع والناقة تزبن الحالب أي تركضه برجلها قال الشاعر:

وَمُستَعْجِبٍ مِمّا يَرى مِنْ أَناتِنا وَلَوْ زَبَنَتْــهُ الحَرْبُ لَمْ يترمرمِ

الإِعراب: { خلق الإِنسان من علق } تخصيص بعد تعميم ألا ترى أن قوله { خلق الإِنسان } بعد قوله خلق خصوص بعد عموم فهو مثل قوله { يؤمنون بالغيب } ثم قال وبالآخرة هم يوقنون فخصص الآخرة بعد ذكر الغيب الذي هو عام لكل ما غاب عنا وعكسه قول لبيد:

وَهُمُ الْعَشِيرَةُ أَنْ يُبَطِّىء حاسِدٌ أَو أَنْ يَلُـومَ بِحاجَــةٍ لَوَّامُهـا

ألا ترى أن اللوم أعم من التبطئة لأن التبطئة نسبة قوم إلى البطء فهذا بعض اللوم وقوله { إن الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى } الضمير المستكن في رآه عائد إلى الضمير المستكن في يطغى والهاء في رآه عائد إلى الضمير المستكن فيه وإنما جاز أن يعود الضمير المنصوب إلى ضمير الفاعل في باب علمت وأخواتها من غير ذكر النفس لدخول هذه الأفعال على المبتدأ والخبر والخبر هو نفس المبتدأ فتقول علمتني وحسبتني أفعل كذا ولا يجوز في غيرها إلا بواسطة النفس تقول ضربت نفسي ولا تقول ضربتني وإن رآه في محل نصب لأنه مفعول له واستغنى جملة في موضع النصب لكونها مفعولة ثانية لرآه والتقدير لأن رآه مستغنياً. ناصية بدل من الناصية أي بناصية كاذبة خاطئة ومعناه بناصية صاحبها كاذب خاطىء يقال فلان نهاره صائم وليله قائم أي هو صائم في نهاره وقائم في ليله. { فليدع ناديه } أي أهل ناديه فحذف المضاف. والنون في لنسفعن نون التأكيد الخفيفة والاختيار عند البصريين أن تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف واختار الكوفيون أن تكتب بالنون لأنها نون في الحقيقة.
المعنى: { اقرأ باسم ربك } هذا أمر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ باسم ربه وأن يدعوه بأسمائه الحسنى وفي تعظيم الاسم تعظيم المسمى لأن الاسم ذكر المسمى بما يخصّه فلا سبيل إلى تعظيمه إلا بمعناه ولهذا لا يعظم اسم الله حق تعظيمه إلا من هو عارف به ومعتقد عبادته ولهذا قال سبحانه
{ { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } [الإسراء: 110] وقال { { سبّح اسم ربك الأعلى } [الأعلى: 1] فالباء هنا زائدة والتقدير اقرأ باسم ربك وأكثر المفسرين على أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن وأول يوم نزل جبرائيل (ع) على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على حراء علمه خمس آيات من أول هذه السورة. وقيل: أول ما نزل من القرآن قوله { يا أيها المدثر } وقد مرَّ ذكره.
وقيل: أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب رواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة:
"إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء" فقالت ما يفعل الله بك إلا خيراً فوالله إنك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث قالت خديجة فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عمّ خديجة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال له ورقة إذا أتاك فأثبت له حتى تسمع ما يقول ثم آتيني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد قل له ذلك فقال له أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشَّر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن أدركني ذلك لأجاهدنَّ معك فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدَّقني" يعني ورقة وروى أن ورقة قال في ذلك:

فَإنْ يَــكُ حَقّــاً يا خَدِيجَةُ فَاعْلَمِي حَدِيثُــكَ إيّانَــا فَأَحْمَـــدُ مُرْسَــلُ
وَجِبْرِيــلُ يَأْتِيـهِ ومِيكـالُ مَعْهُما مِنْ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرُ مُنْزَلُ
يَفُــوزُ بِــهِ مَـنْ فَــاز عِزّاً لِدِينِه وَيَشْقـى بِـهِ الْغاوِي الشَّقِيُّ المُضَلَّلُ
فَرِيقــانِ مِنْهُـمْ فِرْقَـةٌ فِـي جِنانِهِ وَأُخْـرى بِأَغْــلاَلِ الْجَحِيـمِ تَغَلْغَلُ

ثم وصف سبحانه ربه وبينه بفعله الدال عليه فقال { الذي خلق } أي خلق جميع المخلوقات على مقتضى حكمته وأخرجه من العدم إلى الوجود بكمال قدرته ثمَّ خصَّ الإنسان بالذكر تشريفاً له وتنبيهاً على إبانته إياه عن سائر الحيوان فقال { خلق الإنسان من علق } أراد به جنس بني آدم أي خلقتهم من دم جامد بعد النطفة. وقيل: معناه خلق آدم من طين يعلق باليد والأول أصح وفي هذا إشارة إلى بيان النعمة بأن خلقه من الأصل الذي هو في الغاية القصوى من المهانة ثم بلغ به مبالغ الكمال حتى صار بشراً سوياً مهيئاً والتمييز مفرغاً في قالب الاعتدال وأنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل كذلك بنقلك من الجهالة إلى درجة النبوة والرسالة حتى تستكمل شرف محلها.
ثم أكَّد الأمر بالإعادة فقال { اقرأ }. وقيل: أمره في الأول بالقراءة لنفسه وفي الثاني بالقراءة للتبليغ وليس بتكرار عن الجبائي ومعناه اقرأ القرآن { وربك الأكرم } أي الأعظم كرماً فلا يبلغه كرم كريم لأنه يعطي من النعم ما لا يقدر على مثله غيره فكل نعمة توجد من جهته تعالى إمّا بأن اختراعها وإمّا سبَّبها وسهَّل الطريق إليها. وقيل: معناه بلّغ قومك وربك الأكرم الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه ويقويك ويعينك على حفظ القرآن { الذي علم بالقلم } أي علم الكاتب أن يكتب بالقلم أو علم الإنسان البيان بالقلم أو علم الكتابة بالقلم امتنَّ سبحانه على خلقه بما علَّمهم من كيفية الكتابة بالقلم لما في ذلك من كثرة الانتفاع فيما يتعلق بالدين والدنيا قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة لولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش وقال بعضهم في وصفه:

لُعــابُ الأَفاعــيِ الْقِاتِـلاتِ لُعابُهُ وَأَريُّ الْجَنَى اشْتَارَتْهُ أَيْدٍ عَواسِلُ

وقيل أراد سبحانه آدم لأنه أول من كتب عن كعب. وقيل: أول من كتب إدريس عن الضحاك. وقيل: أراد كل نبي كتب بالقلم لأنه ما علمه إلا بتعليم الله إياه { علم الإنسان ما لم يعلم } من أنواع الهدى والبيان وأمور الدين والشرائع والأحكام فجميع ما يعلمه الإنسان من جهته سبحانه إما بأن اضطره إليه وإما بأن نصب الدليل عليه في عقله وإما بأن بيَّنه له على ألسنة ملائكته ورسله فكل العلوم على هذا مضاف إليه وفي هذا دلالة على أنه سبحانه عالم لأن العلم لا يقع إلا من عالم.
{ كلا } أي حقاً { إن الإنسان ليطغى } أي يتجاوز حدّ ويستكبر على ربّه ويعدو طوره { أن رآه استغنى } أي لأن رآه نفسه مستغنية عن ربه بعشيرته وأمواله وقوته كأنه قال إنما يطغى من رأى أنه مستغن عن ربه لا من كان غنياً قال قتادة: كان إذا أصاب مالاً زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه فذلك طغيانه. وقيل: إنها نزلت في أبي جهل بن هشام من هنا إلى آخر السورة.
{ إن إلى ربك الرجعى } أي إلى الله مرجع كل أحد أي فهذا الطاغي كيف يطغى بماله ويعصي ربه ورجوعه إليه وهو قادر على إهلاكه وعلى مجازاته إذا رجع إليه { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } هذا تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم وإعلام له بما يفعله بمن ينهاه عن الصلاة فقد جاء في الحديث:
"أن أبا جهل قال هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قالوا نعم قال فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته فقيل له ها هو ذلك يصلي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقالوا مالك يا أبا الحكم قال إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة وقال نبي الله: والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" فأنزل الله سبحانه { أرأيت الذي ينهى } إلى آخرة السورة رواه مسلم في الصحيح.
ومعنى الآية أرأيت يا محمد من منع من الصلاة ونهى من يصلي عنها ماذا يكون جزاؤه وما يكون حاله عند الله تعالى وما الذي يستحقه من العذاب فحذف لدلالة الكلام عليه والآية عامة في كل من ينهى عن الصلاة والخير وروي عن علي أنه خرج في يوم عيد فرأى ناساً يصلون فقال يا أيها الناس قد شهدنا نبي الله في مثل هذا اليوم فلم يكن أحد يصلي قبل العيد أو قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل يا أمير المؤمنين ألا تنهى أن يصلوا قبل خروج الإمام فقال لا أريد أن أنهى عبداً إذا صلّى ولكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي صلى الله عليه وسلم أو كما قال ومعنى أرأيت ها هنا تعجيب للمخاطب.
ثم كرَّر هذه اللفظة تأكيداً في التعجيب فقال { أرأيت إن كان على الهدى } يعني العبد المنهي وهو محمد صلى الله عليه وسلم { أو أمر بالتقوى } يعني بالإخلاص والتوحيد ومخافة الله تعالى وها هنا حذف أيضاً تقديره كيف يكون حال من ينهاه عن الصلاة ويزجره عنها.
ثم قال { أرأيت إن كذب } أبو جهل { وتولى } عن الإيمان وأعرض عن قبوله والإصغاء إليه { ألم يعلم بأن الله يرى } ما يفعله ويعلم ما يصنعه والتقدير أرأيت الذي فعل هذا الفعل ما الذي يستحق بذلك من الله تعالى من العقاب. وقيل: إن تقدير نظم الآية أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى وهو على الهدى آمر بالتقوى والناهي كاذب مكذب متول عن الإيمان فما أعجب هذا ثم هدَّده بقوله ألم يعلم هذا المكذب فإن لم يعلم فليعلم بأن الله يرى هذا الصنيع الشنيع فيؤاخذه به وفي هذا إشارة إلى فعل الطاعة وترك المعصية.
ثم قال سبحانه { كلا } أي لا يعلم ذلك { لئن لم ينته } يعني إن لم يمتنع أبو جهل عن تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وإيذائه { لنسفعاً بالناصية } أي لنجرنَّ بناصيته إلى النار وهذا كقوله
{ { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } [الرحمن: 41] ومعناه لنذلَّنه ونقيمنه مقام الأذلة ففي الأخذ بالناصية إهانة واستخفاف. وقيل: معناه لنغيرنَّ وجهه ونسودنَّه بالنار يوم القيامة لأن السفع أثر الإحراق بالنار.
ثم أخبر سبحانه عنه بأنه فاجر خاطىء بأن قال { ناصية كاذبة خاطئة } وصفها بالكذب والخطأ بمعنى أن صاحبها كاذب في أقواله خاطىء في أفعاله, لما ذكر الجر بها أضاف الفعل إليها قال ابن عباس: لما أتى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهره رسول الله فقال أبو جهل: اتنتهرني يا محمد فوالله لقد علمت ما بها أحد أكثر نادياً مني فأنزل الله سبحانك { فليدع ناديه } وهذا وعيد أي فليدع أهل ناديه أي أهل مجلسه يعني عشيرته فليستنصر بهم إذا حل عقاب الله به والنادي الفناء قال وتأتون في ناديكم المنكر.
ثم قال { سندع الزبانية } يعني الملائكة الموكلين بالنار وهم الملائكة الغلاظ الشداد قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية النار من ساعته معاينة. وقيل: إنه إخبار بأنه يدعو إليه الزبانية دعا ناديه أم لم يدع وصدق سبحانه ذلك فقتل أبو جهل يوم بدر.
ثم قال { كلا } أي ليس الأمر على ما عليه أبو جهل { لا تطعه } في النهي عن الصلاة { واسجد } له عز اسمه { واقترب } من ثوابه. وقيل: معناه وتقرب إليه بطاعته. وقيل: معناه اسجد يا محمد للتقرب منه فإن أقرب ما يكون العبد من الله إذا سجد له. وقيل: واسجد أي وصلّ لله وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجداً" . وقيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة والسجود هنا فرض وهو من العزائم وروي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال العزائم "الم تنزيل"وحم السجدة"والنجم إذا هوى"واقرأ باسم ربك" وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض.