التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
-الفتح

تفسير القرآن

{ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال: فإنه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان (سياد ط) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم أن الله عز وجل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين، فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة وساقوا البدن وساق رسول الله صلى الله عليه وآله ستاً وستين بدنة وأشعرها عند إحرامه، وأحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة قد ساق من ساق منهم الهدي مشعرات مجللات، فلما بلغ قريشاً ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ليستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان يعارضه على الجبال فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن بلال وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنهم لا يقطعون صلاتهم ولكن تجيء لهم الآن صلاة أخرى أحب إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرائيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله بصلاة الخوف بقوله: { { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } [النساء: 102] الآية، وهذه الآية في سورة النساء وقد مضى ذكر خبر صلاة الخوف فيها.
فلما كان في اليوم الثاني نزل رسول الله صلى الله عليه وآله الحديبية وهي على طرف الحرم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يستنفر بالأعراب في طريقه معه فلم يتبعه أحد ويقولون: أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم أنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبداً فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله الحديبية خرجت قريش يحلفون باللات والعزى لا يدعون محمداً يدخل مكة وفيهم عين تطرف، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله إني لم آت لحرب وإنما جئت لأقضي نسكي وأنحر بدني وأخلي بينكم وبين لحماتها، فبعثوا عروة بن مسعود الثقفي وكان عاقلاً لبيباً وهو الذي أنزل الله فيه:
{ { وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [الزخرف: 31] فلما أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله عظم ذلك وقال: يا محمد تركت قومك وقد ضربوا الأبنية وأخرجوا العود المطافيل يحلفون باللات والعزى لا يدعوك تدخل مكة فإن مكة حرمهم وفيها عين تطرف أفتريد أن تبيد أهلك وقومك يا محمد! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما جئت لحرب وإنما جئت لأقضي نسكي فانحر بدني وأخلي بينكم وبين لحماتها، فقال عروة: بالله ما رأيت كاليوم أحداً صد كما صددت، فرجع إلى قريش وأخبرهم فقالت قريش والله لئن دخل محمد مكة وتسامعت به العرب لنذلن ولتجترين علينا العرب.
فبعثوا حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو فلما نظر إليهما رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ويح قريش قد نهكتهم الحرب ألا خلوا بيني وبين العرب فإن أك صادقاً فإنما أجر الملك إليهم مع النبوة وإن أكُ كاذباً كفتهم ذؤبان العرب لا يسألني اليوم امرؤ من قريش خطة ليس لله فيها سخط إلا أجبتهم إليه، قال: فوافوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: يا محمد ألا ترجع عنا عامك هذا إلى أن ننظر إلى ماذا يصير أمرك وأمر العرب فإن العرب قد تسامعت بمسيرك فإن دخلت بلادنا وحرمنا استذلتنا العرب واجترأت علينا ونخلي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنا فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ذلك وقالوا له وترد إلينا كل من جاء‌ك من رجالنا ونرد إليك كل من جاء‌نا من رجالك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من جاء‌كم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ولكن على أن المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الإِسلام ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإِسلام، فقبلوا ذلك فلما أجابهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الصلح أنكر عامة أصحابه وأشد ما كان إنكاراً فلان فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال: نعم، قال: فنعطى الذلة (الدنية ح) في ديننا! قال: إن الله قد وعدني ولن يخلفني قال: لو أن معي أربعين رجلاً لخالفته.
ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبرهم بالصلح فقال عمر يا رسول الله ألم تقل لنا أن ندخل المسجد الحرام ونحلق مع المحلقين؟ فقال أمن عامنا هذا وعدتك؟ وقلت لك: إن الله عز وجل قد وعدني أن أفتح مكة وأطوف وأسعى مع المحلقين، فلما أكثروا عليه صلى الله عليه وآله قال لهم: إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم، فمروا نحو قريش وهم مستعدون للحرب وحملوا عليهم فانهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله هزيمة قبيحة ومروا برسول الله صلى الله عليه وآله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: يا علي! خذ السيف واستقبل قريشاً، فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام سيفه وحمل على قريش فلما نظروا إلى أمير المؤمنين عليه السلام تراجعوا وقالوا: يا علي بدا لمحمد فيما أعطانا فقال: لا وتراجع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله مستحيين وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ألستم أصحابي يوم بدر إذ أنزل الله فيكم إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين، ألستم أصحابي يوم أُحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم، ألستم أصحابي يوم كذا؟ ألستم أصحابي يوم كذا فاعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وندموا على ما كان منهم وقالوا: الله أعلم ورسوله فاصنع ما بدا لك.
ورجع حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقالا: يا محمد قد أجابت قريش إلى ما اشترطت عليهم من إظهار الإِسلام وان لا يكره أحد على دينه فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بالكتب ودعا أمير المؤمنين عليه السلام وقال له اكتب، فكتب أمير المؤمنين عليه السلام:
"بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو: لا نعرف الرحمن أكتب كما كان يكتب آباؤك باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أكتب بإسمك اللهم فإنه اسم من أسماء الله، ثم كتب: "هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله والملأ من قريش، فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك أكتب هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد الله أتأنف من نسبك يا محمد! فقال رسول الله أنا رسول الله وإن لم تقروا، ثم قال: امح يا علي! واكتب محمد بن عبد الله، فقال أمير المؤمنين عليه السلام، ما أمحو اسمك من النبوة أبداً، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وآله بيده، ثم كتب: "هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل بن عمرو واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين على أن يكف بعض عن بعض وعلى أنه لا إسلال ولا إغلال وأن بيننا وبينهم غيبة مكفوفة، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل، وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليه يرده إليه وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يرده إليه، وأن يكون الإِسلام ظاهراً بمكة لا يكره أحد على دينه، ولا يؤذى ولا يعير، وأن محمداً يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه ثم يدخل علينا في العام القابل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام، ولا يدخل عليها بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القراب" وكتب علي بن أبي طالب وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي! إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة فوالذي بعثني بالحق نبياً لنجيبن أبناء‌هم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب: هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن أكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: صدق الله وصدق رسوله صلى الله عليه وآله أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، ثم كتب الكتاب قال: فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وعقده، وقامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش وعقدها، وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله ونسخة عند سهيل بن عمرو ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: انحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم فامتنعوا وقالوا كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك وشكا ذلك إلى أم سلمة، فقالت يا رسول الله انحر أنت واحلق فنحر رسول الله صلى الله عليه وآله وحلق ونحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله تعظيماً للبدن رحم الله المحلقين وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول الله والمقصرين؟ لأن من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ثانياً رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي، فقالوا يا رسول الله والمقصرين فقال رحم الله المقصرين، ثم رحل رسول الله صلى الله عليه وآله نحو المدينة فرجع إلى التنعيم ونزل تحت الشجرة، فجاء أصحابه الذين أنكروا عليه الصلح واعتذروا وأظهروا الندامة على ما كان منهم وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يستغفر لهم فنزلت آية الرضوان نزل { بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }.