التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
-المائدة

تفسير القرآن

قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } فواجب لفظ الآية أن الفداء يجب على من قتل الصيد متعمداً وفي المعنى والتفسير يجب الجزاء على من قتل الصيد متعمداً أو خطأ.
حدثني محمد بن الحسين (الحسن ط) عن محمد بن عون النصيبي قال لما أراد المأمون أن يزوج أبا جعفر محمد بن علي بن موسى عليه السلام ابنته أم الفضل اجتمع إليه أهل بيته الأدنين منه فقالوا له يا أمير المؤمنين ننشدك الله أن لا تخرج عنا أمراً قد ملكناه وتنزع عنا عزاً قد ألبسنا الله فقد عرفت الأمر الذي بيننا وبين آل علي قديماً وحديثاً، قال المأمون اسكتوا فوالله لأقبلت من أحدكم في أمره، فقالوا يا أمير المؤمنين أفتزوج قرة عينك صبياً لم يتفقه في دين الله ولا يعرف فريضة ولا سنة ولا يميز بين الحق والباطل، ولأبي جعفر عليه السلام يومئذ عشرة سنين أو أحد عشرة سنة، فلو صبرت عليه حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف فرضاً من سنته، فقال لهم المأمون والله إنه لأفقه منكم وأعلم بالله وبرسوله وفرائضه وسننه وأحكامه واقرأ بكتاب الله وأعلم بمحكمه ومتشابهه وخاصه وعامة وناسخه ومنسوخه وتنزيله وتأويله منكم فاسألوه فإن كان الأمر كما قلتم قبلت منكم في أمره وإن كان كما قلت علمتم أن الرجل خير منكم، فخرجوا من عنده وبعثوا إلى يحيى بن أكثم واطمعوه في هدايا أن يحتال على أبي جعفر عليه السلام بمسألة لا يدري كيف الجواب فيها عند المأمون إذا اجتمعوا للتزويج، فلما حضروا وحضر أبو جعفر عليه السلام قالوا يا أمير المؤمنين هذا يحيى بن أكثم إن أذنت له أن يسأل أبا جعفر عليه السلام عن مسألة، فقال المأمون يا يحيى سل أبا جعفر عليه السلام عن مسألة في الفقه لننظر كيف فقهه، فقال يحيى يا أبا جعفر أصلحك الله ما تقول في محرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر عليه السلام قتله في حل أو حرم، عالماً أو جاهلاً، عمداً أو خطأ، عبداً أو حراً، صغيراً أو كبيراً، مبدياً أو معيداً، من ذوات الطير أو من غيرها، من صغار الصيد أو من كبارها، مصراً عليها أو نادماً، بالليل في وكرها أو بالنهار عياناً، محرماً لعمرة أو للحج؟ قال: فانقطع يحيى بن أكثم انقطاعاً لم يخف على أهل المجلس وأكثر الناس تعجباً من جوابه، ونشط المأمون فقال نخطب يا أبا جعفر، فقال نعم يا أمير المؤمنين فقال المأمون:
الحمد لله إقراراً بنعمته ولا إله إلا الله إخلاصاً لعظمته وصلى الله على محمد عند ذكره وقد كان من فضل الله على الأنام إن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ثم إن محمد بن علي ذكر أم الفضل بنت عبد الله وبذل لها من الصداق خمسمائة درهم وقد زوجتك فهل قبلت يا أبا جعفر، قال أبو جعفر عليه السلام نعم يا أمير المؤمنين قد قبلت هذا التزويج بهذا الصداق ثم أولم عليه المأمون وجاء الناس على مراتبهم الخاص والعام، قال فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كلاماً كأنه من كلام الملاحين في مجاوباتهم فإذا نحن بالخدم يجرون سفينة من فضة وفيها نسائج إبريسم مكان القلوس مملؤة غالية فخضبوا أهل الخاص بها ثم مروا بها إلى دار العامة فطيبوهم، فلما تفرق الناس قال المأمون: يا أبا جعفر إن رأيت أن تبين لنا ما الذي يجب على كل صنف من هذه الأصناف التي ذكرت في قتل الصيد؟ فقال أبو جعفر عليه السلام نعم يا أمير المؤمنين إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل والصيد من ذوات الطير من كبارها فعليه شاة، وإذا أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه جمل قد فطم وليس عليه قيمته لأنه ليس في الحرم، وإذا قتله في الحرم فعليه الجمل وقيمته لأنه في الحرم، وإذا كان من الوحش فعليه في حمار الوحش بدنة وكذلك في النعامة، فإن لم يقدر فعليه إطعام ستين مسكيناً، فإن لم يقدر فصيام ثمانية عشر يوماً، وإن كانت بقرة فعليه بقرة فإن لم يقدر فعليه إطعام ثلاثين مسكيناً، فمن لم يقدر فليصم تسعة أيام، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن لم يقدر فإطعام عشرة مساكين، فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام، وإن كان في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة حقاً واجباً عليه أن ينحره، وإن كان في حج بمنى حيث ينحر الناس فإن كان في عمرة ينحره بمكة ويتصدق بمثل ثمنه حتى يكون مضاعفاً، وكذلك إذا أصاب أرنبا فعليه شاة وإذا قتل الحمامة تصدق بدرهم أو يشتري به طعاماً لحمامة الحرم، وفي الفرخ نصف درهم، وفي البيضة ربع درهم. وكلما أتى به المحرم بجهالة فلا شيء عليه فيه إلا الصيد فإن عليه الفداء بجهالة كان أو بعلم بخطأ كان أو بعمد، وكلما أتى به العبد فكفارته على صاحبه بمثل ما يلزم صاحبه، وكلما أتى به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شيء عليه فيه، وإن كان ممن عاد فهو ممن ينتقم الله منه ليس عليه كفارة والنقمة في الآخرة، وإن دل على الصيد وهو محرم فقتل فعليه الفداء، والمصر عليه يلزمه بعد الفداء عقوبة في الآخرة، والنادم عليه لا شيء عليه بعد الفداء وإذا أصاب ليلاً في وكرها خطأ فلا شيء عليه إلا أن يتعمده فإن تعمد بليل أو نهار فعليه الفداء، والمحرم بالحج ينحر الفداء بمنى حيث ينحر الناس والمحرم للعمرة ينحر بمكة فأمر المأمون أن يكتب ذلك كله عن أبي جعفر عليه السلام ثم دعا أهل بيته الذين أنكروا تزويجه عليه فقال لهم هل فيكم أحد يجيب بمثل هذا الجواب؟ قالوا لا والله ولا القاضي، ثم قال ويحكم إن أهل هذا البيت خلو من هذا الخلق أوما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله بايع للحسن والحسين وهما صبيان غير بالغين ولم؟ يبايع؟ طفلاً غيرهما.
أو ما علمتم أن أباه علياً آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وهو ابن اثني عشر سنة وقبل الله ورسوله منه إيمانه ولم يقبل من طفل غيره، ولا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله طفلاً غيره إلى الإيمان أو ما علمتم أنها ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم مثل ما يجري لأولهم، فقالوا صدقت يا أمير المؤمنين كنت أنت أعلم به منا.
قال ثم أمر المأمون أن ينثر على أبي جعفر عليه السلام ثلاثة أطباق رقاع زعفران ومسك معجون بماء الورد وجوفها رقاع على طبق رقاع عمالات، والثاني ضياع طعمة لمن أخذها، والثالث فيه بدر فأمر أن يفرق الطبق الذي عليه عمالات على بني هاشم خاصة، والذي عليه ضياع طعمة على الوزراء، والذي عليه البدر على القواد، ولم يزل مكرماً لأبي جعفر عليه السلام أيام حياته حتى كان يؤثره على ولده وأما قوله: { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } فإنه حدثني أبي عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن سفين بن عيينة عن الزهري عن علي ابن الحسين عليهما السلام قال قال يوماً يا زهري من أين جئت؟ قلت من المسجد قال: فيم كنتم، قلت تذاكرنا أمر الصوم فاجتمع رأيي ورأي أصحابي إنه ليس من الصوم شيء واجب إلا صوم شهر رمضان، فقال يا زهري ليس كما قلتم الصوم على أربعين وجهاً، فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان وأربعة عشر وجهاً صاحبها فيها بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر، وعشرة أوجه منها حرام، وصوم الأذن على ثلاثة أوجه، وصوم التأديب وصوم الإباحة وصوم السفر والمرض، فقلت فسرهن لي جعلت فداك، فقال أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين فيمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً، وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق واجب، قال الله:
{ { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبه مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } [النساء: 92] وقوله: { { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } [النساء: 92] وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار لمن لم يجد العتق واجب قال الله تعالى: { { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } [المجادلة 4] وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين واجب لمن لم يجد الاطعام قال الله تعالى: { { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } [المائدة: 89] كل ذلك متتايع وليس بمتفرق، وصيام أذى حلق الرأس واجب قال الله: { أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } [البقرة: 196] فصاحبها فيها بالخيار فان شاء صام ثلاثة أيام، وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدي قال الله: { { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [البقرة: 196] وصوم جزاء الصيد واجب قال الله تعالى: { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهري؟ قلت لا، قال: يقوم الصيد قيمته ثم تنقض تلك القيمة على البر، ثم يكال ذلك البر أصواعاً فيصوم لكل نصف صاع يوماً، وصوم النذر واجب وصوم الاعتكاف واجب، وأما الصوم الحرام فصوم يوم الفطر ويوم الأضحى وثلاثة أيام التشريق وصوم يوم الشك أمرنا به ونهينا عنه أن يتفرد للرجل بصيامه في اليوم الذي يشك فيه الناس، قلت فإن لم يكن صام من شعبان شيئاً كيف يصنع؟ قال: ينوي ليلة الشك إنه صائم من شعبان، فإن كان من شهر رمضان أجزأ عنه وإن كان من شعبان لم يضره، فقلت وكيف يجزى صوم تطوع من فريضة؟ فقال لو أن رجلاً صام شهر رمضان تطوعاً وهو لا يعلم إنه شهر رمضان ثم علم بعد ذلك أجزأه عنه لأن الفرض إنما وقع على الشهر بعينه، وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، وأما الصوم الذي صاحبه فيه بالخيار: فصوم يوم الجمعة والخميس والإثنين، وصوم أيام البيض، وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان، وصوم يوم عرفة، وصوم يوم عاشورا كل ذلك صاحبه فيه بالخيار إن شاء صام وإن شاء ترك، وأما صوم الإذن فان المرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، والعبد لا يصوم تطوعاً إلا بإذن سيده والضيف لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من نزل على قوم فلا يصوم إلا بإذنهم" وأما صوم التأديب فالصبي يؤمر بالصوم إذا راهق تأديباً وليس بفرض، وكذلك من أفطر أول النهار ثم عوفي بقية يومه أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم دخل مصره أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً وليس بفرض، فأما صوم الإباحة فمن أكل أو شرب ناسياً أو تقيأ أو قاء من غير تعمد فقد أباح الله له ذلك وأجزأ عنه صومه وأما صوم السفر والمرض فإن العامة اختلفت في ذلك، فقال قوم يصوم وقال قوم إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقال قوم لا يصوم وأما نحن فنقول يفطر في الحالتين جميعاً فإن صام في السفر أو في حال المرض فهو عاص وعليه القضاء وذلك لأن الله يقول: { { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } [البقرة: 184].