التفاسير

< >
عرض

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
١٢
-الأنفال

تفسير القرآن

أنزل الله عليهم السماء حتى تثبت أقدامهم على الأرض وهو قول الله تعالى: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } [11] وذلك أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله احتلم { وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } وكان المطر على قريش مثل العزالى وكان على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله رذاذاً بقدر ما لبد الأرض.
وخافت قريش خوفاً شديداً فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود فقال ادخلا في القوم وأتياني بأخبارهم، فكانا يجولان في عسكرهم لا يرون إلا خائفاً ذعراً إذا صهل الفرس وثب علي جحفلته فسمعوا منبة بن الحجاج يقول:

لايترك الجزع (الجوع ط) لنا مبيتاً لا بد أن نموت او نميتا

قال صلى الله عليه وآله: "والله كانوا شباعى (سباعى) ولكنهم من الخوف قالوا هذا" وألقى الله على قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [12] فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله عبأ أصحابه وكان في عسكره صلى الله عليه وآله فرسان فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد، وكان في عسكره سبعون جملاً يتعاقبون عليها، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وعلي بن أبي طالب عليه السلام علي جمل يتعاقبون عليه والجمل لمرثد وكان في عسكر قريش أربعمائة فرس.
فعبأ رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه بين يديه وقال غضوا أبصاركم لا تبدوهم بالقتال ولا يتكلمن أحد، فلما نظر قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قال أبو جهل: ما هم إلا أكلة رأس ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد، فقال عتبة بن ربيعة أترى لهم كميناً ومدداً؟ فبعثوا عمر بن وهب الجمحي، وكان فارساً شجاعاً فجال بفرسه حتى طاف إلى معسكر رسول الله صلى الله عليه وآله ثم صعد الوادي وصوت ثم رجع إلى قريش، فقال ما لهم كمين ولا مدد ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرساً لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم وما أراهم يولون حتى يقتلون، ولا يقتلون حتى يقتلون بعددهم، فارتاؤا رأيكم، فقال أبو جهل: كذبت وجبنت وانتفخ منخرك حين نظرت إلى سيوف يثرب.
وفزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله حين نظروا إلى كثرة قريش وقوتهم فأنزل الله على رسوله:
{ { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } [الأنفال: 61] وقد علم الله أنهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السلم وإنما أراد سبحانه بذلك ليطيب قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى قريش، فقال يا معشر قريش ما أحد من العرب أبغض إلي ممن بدأ بكم خلوني والعرب فإن أك صادقاً فأنتم اعلى بي عيناً وإن أكُ كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري فارجعوا، فقال عتبة والله ما أفلح قوم قط ردوا هذا، ثم ركب جملاً له أحمر فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله يجول في العسكر وينهى عن القتال، فقال إن يكون عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر فإن يطيعوه يرجعوا ويرشدوا، فأقبل عتبة يقول يا معشر قريش اجتمعوا واستمعوا ثم خطبهم فقال يمن رحب فرحب مع يمن يا معشر قريش! اطيعوني اليوم واعصوني الدهر وارجعوا إلى مكة واشربوا الخمور وعانقوا الحور فإن محمداً له أل وذمة وهو ابن عمكم فارجعوا ولا تنبذوا رأيي وإنما تطالبون محمداً بالعير التي أخذها محمد صلى الله عليه وآله بنخيلة ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلي عقله، فلما سمع أبو جهل ذلك عاظه وقال إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام ولئن رجعت قريش بقوله ليكونن سيد قريش آخر الدهر ثم قال يا عتبة! نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب وجبنت وانتفخ سحرك وتأمر الناس بالرجوع وقد رأينا ثأرنا بأعيننا، فنزل عتبة عن جمله وحمل على أبي جهل وكان على فرس فأخذ بشعره فقال الناس يقتله، فعرقب فرسه وقال أمثلي يجبن وستعلم قريش اليوم أينا ألئم وأجبن وأينا المفسد لقومه، لا يمشي إلا أنا وأنت إلى الموت عياناً ثم قال: هذا حبائي وخياره فيه، وكان جان يده إلى فيه (ثم أخذ بشعره يجره ك) فاجتمع الناس فقالوا يا أبا الوليد الله الله لا تفت في أعضاد الناس تنهى عن شيء وتكون أوله. فخلصوا أبا جهل من يده فنظر عتبة إلى أخيه شيبة، ونظر إلى ابنه الوليد، فقال قم يا بني فقام ثم لبس درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه، فلم يجدوها لعظم هامته، فاعتم بعمامتين ثم أخذ سيفه وتقدم هو وأخوه وابنه، ونادى يا محمد أخرج إلينا أكفاء‌نا من قريش. فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار عود ومعود وعوف من بني عفرا، فقال عتبة من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم فقالوا نحن بنو عفرا أنصار الله وأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله، قالوا ارجعوا، فإنا لسنا إياكم نريد، إنما نريد الأكفاء من قريش؛ فبعث إليهم رسول الله أن ارجعوا فرجعوا وكره أن يكون أول الكرة بالأنصار، فرجعوا ووقفوا موقفهم، ثم نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان له سبعون سنة، فقال له قم ياعبيدة! فقام بين يديه بالسيف، ثم نظر إلى حمزة بن عبد المطلب، فقال قم يا عم! ثم نظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له قم يا علي! وكان أصغرهم، فقال فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم قد جاء‌ت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطغي نور الله ويابى الله إلا أن يتم نوره، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله ياعبيدة عليك بعتبة، وقال لحمزة عليك بشيبة. وقال لعلي عليك بالوليد بن عتبة، فمروا حتى أنتهو إلى القوم، فقال عتبة من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم، فقال عبيدة: أنا عبيدة بن حارث بن عبد المطلب، فقال كفو كريم فمن هذان؟ قال حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب عليه السلام، فقال كفوان كريمان لعن الله من أوقفنا وإياكم هذا الموقف، فقال شيبة لحمزة من أنت؟ فقال أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء فأنظر كيف تكون صولتك يا أسد الله! فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة ففلق هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه قطعها، وسقطا جميعاً، وحمل حمزة علي شيبة فتضاربا بالسيفين حتى أنثلما؟، وكل واحد يتقى بدرقته.
وحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه، فقال علي عليه السلام فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض، ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون يا علي أما ترى الكلب قد أبهر عمك، فحمل علي عليه السلام ثم قال يا عم طأطأ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه أمير المؤمنين عليه السلام على رأسه فطير نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه، وحمل عبيدة بين حمزة وعلي حتى أتيا به رسول الله صلى الله عليه وآله فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله واستعبر، فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست شهيدا؟ فقال بلي أنت أول شهيد من أهل بيتي قال أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه، قال وأي أعمامي تعني؟ قال أبو طالب حيث يقول عليه السلام:

كذبتم وبيت اللَّـه نبرأ محمداً ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة فقال يا رسول الله أسخطت علي في هذه الحالة فقال ما سخطت عليك ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك.
وقال أبو جهل لقريش لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر أبناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزراً وعليكم بقريش فخذوهم أخذاً حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التي كانوا عليها وكان فتية من قريش أسلموا بمكة فاحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش إلى بدر وهم على الشك والارتياب والنفاق منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكهة والحارث بن ربيعة وعلي ابن أمية بن خلف والعاص بن المنية.
وأنزل على رسوله صلى الله عليه وآله: { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [12] قال: أطراف الأصابع، فقد جاء‌ت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره.