التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

تفسير القرآن

قوله: { وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } فإنها نزلت بمكة قبل الهجرة وكان سبب نزولها أنه لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله الدعوة بمكة قدمت عليه الأوس والخزرج، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله تمنعوني وتكونون لي جاراً حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنة؟ فقالوا نعم خذ لربك ولنفسك ما شئت، فقال لهم موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق فحجوا ورجعوا إلى منى، وكان فيهم ممن قد حج بشر كثير، فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة ولا تنبهوا نائماً ولينسل واحد فواحد، فجاء سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله تمنعوني وتجيروني حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنة؟ فقال سعد بن زرارة والبراء بن مغرور (معرور ط) وعبد الله بن حزام نعم يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال أما ما اشترط لربي فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم وتمنعوا أهلي مما تمنعون أهاليكم وأولادكم، فقالوا وما لنا على ذلك؟ فقال الجنة في الآخرة وتملكون العرب وتدين لكم العجم في الدنيا،.......... فقالوا قد رضينا، فقال اخرجوا إليَّّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون شهداء عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً فأشار إليهم جبرائيل فقال هذا نقيب هذا نقيب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس فمن الخزرج سعد بن زرارة والبراء بن مغرور وعبد الله بن حزام و (وهوك) أبو جابر بن عبد الله ورافع بن مالك وسعد بن عبادة والمنذر بن عمر وعبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع وعبادة بن الصامت ومن الاوس ابو الهشيم بن التيهان وهو من اليمن واسد بن حصين وسعد ابن خثيمة، فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله صاح إبليس يا معشر قريش والعرب! هذا محمد والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فاسمع أهل منى وهاجت قريش فأقبلوا بالسلاح وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله النداء فقال للأنصار تفرقوا، فقالوا يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم، قالوا أفتخرج معنا قال انتظر أمر الله فجاء‌ت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح، وخرج حمزة وأمير المؤمنين عليه السلام ومعهما السيوف فوقفا على العقبة فلما نظرت قريش إليهما قالوا ما هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة ما اجتمعنا وما ها هنا أحد والله لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي فرجعوا إلى مكة وقالوا لا نأمن من أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد صلى الله عليه وآله، فاجتمعوا في الندوة وكان لا يدخل دار الندوة إلا من قد أتى عليه أربعون سنة، فدخلوا أربعون رجلاً من مشايخ قريش، وجاء إبليس لعنه الله في صورة شيخ كبير فقال له البواب من أنت فقال أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم مني رأي صائب إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئت لأشير عليكم، فقال الرجل أدخل فدخل إبليس.
فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا، نحن أهل الله تغدو إلينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادعى أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وأن أخبار السماء تأتيه فسفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً قالوا وما رأيت؟ قال رأيت أن ندس إليه رجلاً منا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات، فقال الخبيث هذا رأي خبيث قالوا وكيف ذلك؟ قال لأن قاتل محمد مقتول لا محالة فمن ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنه إذا قتل محمد تغضب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فيقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا. فقال آخر منهم فعندي رأي آخر، قال وما هو؟ قال نثبته في بيت ونلقى إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس، فقال إبليس هذا أخبث من الآخر. قال وكيف ذلك؟ قال لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه، قال آخر منهم لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ نحن لعبادة آلهتنا، قال إبليس هذا أخبث من الرأيين المتقدمين قالوا وكيف ذاك؟ قال لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً وأنطق الناس لساناً وأفصحهم لهجة فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه فلا يفجأكم إلا وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً، فبقوا حائرين ثم قالوا لإِبليس فما الرأي فيه يا شيخ؟ قال ما فيه إلا رأي واحد، قالوا وما هو؟ قال يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينة أو حديدة أو سيفاً فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم ثلاث ديات فقالوا نعم وعشر ديات، ثم قالوا الرأي رأي الشيخ النجدي، فاجتمعوا ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي، ونزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره أن قريشا قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك وأنزل عليه في ذلك: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه وخرجوا إلى المسجد يصفرون ويصفقون ويطوفون بالبيت فأنزل الله
{ { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } [الأنفال: 35] فالمكاء التصفير والتصدية صفق اليدين وهذه الآية معطوفة على قوله: { وإذ يمكر بك الذين كفروا } وقد كتبت. بعد آيات كثيرة.
فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله جاء‌ت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يفرش له ففرش له فقال لعلي بن ابي طالب افدني بنفسك، قال نعم يا رسول الله قال نم على فراشي والتحف ببردتي فنام علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله والتحف ببردته وجاء جبرائيل فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم
{ { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون } [يس: 9] وقال له جبرائيل خذ على طريق ثور، وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار وكان من أمره ما كان فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب علي في وجوههم، فقال ما شأنكم؟ قالوا له أين محمد؟ قال أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا، فقد خرج عنكم، فأقبلوا يضربون أبا لهب ويقولون أنت تخدعنا منذ الليلة، فتفرقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفو الآثار، فقالوا له يا أبا كرز اليوم اليوم، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: هذه قدم محمد والله إنها لأخت القدم التي في المقام وكان أبو بكر استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله فرده معه، فقال أبو كرز وهذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه ثم قال وها هنا عبر ابن أبي قحافة فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار، ثم قال ما جاوزا هذا المكان إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال ما في الغار واحد فتفرقوا في الشعاب وصرفهم الله عن رسوله صلى الله عليه وآله ثم أذن لنبيه في الهجرة.