التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ
١
لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
٢
وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
٣
وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ
٤
وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
٥
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
٦
-الكافرون

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي { ولي دين } ساكنة الياء. الباقون بفتحها من فتح الياء فلخفة الفتحة ومن أسكنها فانه كره الحركة على حرف العلة. وقرأ { ديني } بياء في الحالين يعقوب. الباقون بلا ياء فيهما. من أثبت الياء، فلانها الاصل. ومن حذفها اجتزأ بالكسرة الدالة عليها. وقيل: إن هذه السورة نزلت جواباً لقول جماعة من المشركين دعوا النبي صلى الله عليه واله إلى أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا هم إلهه سنة. وفيهم نزل قوله { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } هذا قول ابن عباس. وقيل: إنهم قالوا: نشركك فى أمرنا، فان كان الذي فى أيدينا خيراً كنت قد أخذت بحظ منه، وإن كان الذي فى يدك خيراً قد أخذنا بحظ منه. وقيل: إن الذي قال ذلك الوليد ابن المغيرة والعاص ابن وائل والاسود ابن المطلب وأمية ابن خلف. وقيل: إنهم قالوا: نتداول العبادة ليزول ما بيننا من البغضاء والعداوة، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهم { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } ومعناه لا أعبد ما تعبدون لفساد عبادة الأوثان، ولا أنتم عابدون ما أعبد لجهلكم بوجوب اخلاص العبادة لله، لان العقل يقتضي أنه صلى الله عليه وآله لهذا امتنع وامتنعوا، وإنما كرر ذكر العبادة لتصريفها فى الفوائد المختلفة وقد نفى عبادة المؤمن للوثن كيف تصرفت الحال فى ماض أو حاضر أو مستقبل لقبحها، ونفي عبادة الكافر لله مع إقامته على الجهل بوجوب إخلاص العبادة له. وقيل: فى وجه التكرير فى السورة أن ظاهر ذلك وإن كان تكريراً، فليس فى الحقيقة تكريراً أصلا، ولا تكرير فى اللفظ إلا فى موضع واحد سنبينه بعد بيان المعنى إن شاء الله، وذلك أن قوماً من المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله مناقلة العبادة سنة يعبدون فيها ما يعبده صلى الله عليه وآله وسنة يعبد هو ما يعبدون لزوال العادة بوقوع العبادة على هذه الجهلة فجاء الكلام على طريق الجواب لانكار ما سألوا، فقيل { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } وهذا نفي منه لما يعبدون في الاستقبال ثم قال { ولا أنا عابد ما عبدتم } على نفي العبادة لما عبدوا في الماضي، وهذا واضح في أنه لا تكرير في لفظه ولا معناه. وقوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فعلى التكرير في اللفظ دون المعنى من قبل أن التقابل يوجب أن معناه ولا أنتم عابدون ما عبدت إلا انه عدل بلفظه إلى اعبد للاشعار أن ما عبدت هو ما أعبد، واستغني بما يوجبه التقابل من معنى عبدت عن الافصاح به. وعدل عن لفظه لتضمين معنى آخر فيه، وكان ذلك اكثر في الفائدة وأولى بالحكمة، لانه دل على (عبدت) دلالة التصريح باللفظ
فان قيل فهلا قال: ما عبدت ليتقابل اللفظ، كما تقابل المعنى؟ قيل: هو في حكم التقابل في اللفظ من حيث هو دال عليه إلا انه عدل عن الافصاح به للاشعار بأن معبوده واحد كيف تصرفت الحال، وكان هذا أبعد في الايهام أن معبوده فيما مضى غير معبوده فيما يستقبل. وقد يجوز في الماضي والمستقبل ان يقع أحدهما موقع الآخر إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كما قال
{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } على معنى ينادون، ومنه قولهم: يدعوهم ابن رسول الله فلا يجيبونه، ويدعوهم ابن زياد إلى الباطل فيسرعون اليه.
فان قيل: فهلا دل على اختلاف المعنى باختلاف اللفظ إذ هو الاصل في حسن البيان؟ قيل: إن التقابل في ذلك قد صير اللفظ في حكم المختلف، لأنه مقيد به، ودلالة المقيد خلاف دلالة المطلق نحو: زيد قائم بالتدبير على خلاف معنى زيد قائم.
فان قيل: فهلا دل على ذلك من أصول مختلفة إذ هو أدل على خلاف المعنى بصريح الجهة؟ قيل: إنه لما أريد نفي العبادة على تصريف الأحوال صرف لفظ العبادة لتصريف المعنى، ولم يصلح فيه أصول مختلفة، لئلا يوهم النفي نفي معنى غير تصريف عبادة الله على الوجوه والاسباب كلها، وكان تصريف لفظ العبادة لتصريف معناها أحق وأولى من تصريف معناها في غير لفظها لما فيه من التشاكل المنافي للتنافر، ولفظة { الكافرون } في السورة مخصوصة بمن علم الله من حاله أنه يموت على كفره. ولا يجوز ان يكون المراد العموم لأنا علمنا دخول كثير ممن كان على الكفر ثم دخل في الاسلام، وقيل: ان الالف واللام في الاية للمعهود، لأن (أيا) لا يوصف إلا بالجنس، فخرج اللفظ على الجنس من حيث هو صفة لـ (أي) ولكن (أيا) للمخاطبين من الكفار بأعيانهم فآل الى معنى المعهود في انه يرجع إلى جماعة بعينها، ونحوه يا أيها الرجال ادخلوا الدار، فلم تأمر جميع الرجال، ولكن أمرت الذي أشرت اليهم باقبالك عليهم. وقيل: يجوز أن تكون الآية عامة، والتقدير ولا أنتم عابدون ما أعبد بالشرط الذي ذكرتموه من أني أعبد إلهكم، لان هذا الشرط لا يكون ابداً، ولكن يجوز أن يؤمنوا فيما بعد بغير هذا الشرط.
فان قيل: ما فائدة الكلام؟
قيل الانكار لما لا يجوز من مناقلة العبادة على ما توهمه قوم من الكفار لتقوم الحجة به من جهة السمع كما كانت من جهة العقل مع الاعجاز الذي فيه. فان قال قائل: من أي وجه تضمن الاعجاز؟ قيل: له من جهة الاخبار بما يكون في مستقبل الأوقات مما لا سبيل إلى علمه إلا بوحي الله إلى من يشاء من العباد، فوافق المخبر بما تقدم به الخبر، وفي ذلك أكبر الفائدة وأوضح الدلالة.
فان قيل: ما معنى { لكم دينكم ولي دين }؟.
قيل معناه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبك بجزاء دينهم وبالا وعقاباً كما حسبك بجزاء دينه نعيماً وثواباً.
فان قيل: لم لا ذكرت الحجة في أن ما يدعون اليه لا يجوز.
قيل له: تقبيحاً لها من حيث أخرجت مخرج مقالة يكفي العلم بفسادها، حكايتها مع الاستغناء بما في العقول عن الدلالة على بطلانها.
فان قيل: فهلا أنكر عليهم من طريق أن كل ما دعوا اليه لا يجوز للايجاز؟
قيل: لانه إنكار متصل على حد ما يسألوا ولو أنكر انكاراً مجملا لم يبين به تفصيل ما سألوه إلا بأن يحكى على انفراده. ثم يحمل الانكار به فحينئذ يفهم منه معنى المفصل.
فان قيل: فهلا بين ذكرهم بصفة غير منكر؟
قيل: قد بين ذلك بعلم التعريف له إلا أنه بصفات الذم التي فيها معنى الزجر وهي دالة على احوالهم فيما دعوا له من الباطل، وتقحموا من أحوال الجاهل.
فان قيل: فلم قال { لكم دينكم ولي دين } مع ما يقتضي ظاهره التسليم؟
قيل: مظاهرة في الانكار، كما قال تعالى
{ اعملوا ما شئتم } لما صاحبه من الدليل على التمكين وشدة الوعيد بالقبح لانه إذا اخرج الكلام مخرج التسليم للامر دل على أن الضرر لا يلحق إلا المسلم اليه، فكأنه قيل له: اهلك نفسك إن كان ذلك خيراً لك.
فان قال: فلم قيل: ولا انتم عابدون ما أعبد، ولم يقل من أعبد؟
قيل له: لانه مقابل لقوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } من الاصنام، ولا يصلح ها هنا إلا (ما) دون (من) لأنه يعني ولا أنا عابد ما عبدتم من الاصنام ثم حمل الثاني على الاول للتقابل حتى لا يتنافر. وقيل: ان معناه ولا أنا عابد عبادتكم ولا انتم عابدون عبادتي، لان عبادته متوجهة إلى الله، وعبادتهم متوجهة إلى الاصنام فـ (ما) ها هنا مع ما بعدها بمنزلة المصدر.
فان قيل: فلم انكر ما لا يجوز فى الحكمة بألين النكير مع خروجه إلى أفحش القبح؟
قيل: ليس ذلك بألين النكير فى المعنى وإن خرج لفظه ذلك المخرج، لأنه إنما عومل تلك المعاملة ليجعل فى حيز ما يكفي فيه التنبيه، حتى يظهر انه أقبح قبيح وهذا ضرب من البلاغة عجيب يفهمه كل عاقل له أدنى فطنة. ويعلم موضعه فى الحكم
فان قيل: ما الدليل على ان تأويل السورة ما ذكرتم دون غيره من التأويلات
قيل: الدليل على ان ذلك الكلام إذا احتمل وجهين فصاعداً فى اللغة، وأحد الوجهين يجوز، والآخر لا يجوز، وجب ان يكون تأويله ما يجوز عليه تعالى ويليق به دون ما لا يليق به ولا يجوز عليه، تعالى الله.