التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ
٦٩
-هود

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة والكسائي "قال سلم" بكسر السين وسكون اللام من غير الف هنا، وفي الذاريات. قال محمد بن يزيد المبرد (السلام) في اللغة يحتمل اربعة اشياء، منها مصدر سلمت، ومنها جمع سلامة، ومنها اسم من اسماء الله، ومنها اسم شجرة، ومنه قول الاخطل:

الاسلام وحرمل

وقوله { { دار السلام } يحتمل ان يكون مضافاً الى الله تعظيماً لها، ويجوز ان يكون دار السلام من العذاب لمن حصل فيها. واما انتصاب قوله { سلاماً } فانه لا يحك شيئاً تكلموا به فيحكى كما تحكى الجمل، ولكن هو ما تكلمت به الرسل، كما ان القائل اذا قال لا اله الا الله، فقلت له قلت حقاً او قلت اخلاصاً اعملت القول في المصدر لانك ذكرت معنى ما قال، فلم يحك نفس الكلام الذي هو جملة يحكى، فكذلك نصب سلاماً هنا، لما كان معنى ما قيل ولم يكن نفس القول بعينه. وقوله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } قال بسيبويه زعم ابو الخطاب: ان مثله يراد به مثل قولك سبحان الله الذي، تفسيره براءة الله من السوء، وقولك للرجل سلاماً تريد مسلماً منك لا ابتلي بشيء من امرك. وقوله "سلام" مرفوع، لانه من جملة الجملة المحكية، وتقديره سلام عليكم فحذف الخبر كما حذف من قوله { فصبر جميل } اي فصبر جميل امثل او يكون المعنى امري سلام وشأني سلام، كما يجوز ان يكون في قوله { فصبر جميل } المحذوف منه المبتدا، ومثله على حذف المبتدا قوله تعالى { فاصفح عنهم وقل سلام } او حذف الخبر ويكون سلام مبتدأ واكثر ما يستعمل { سلام } بغير الف ولام لأنه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم خير بين يديك، فمن ذلك قوله { قال سلام عليك سأستغفر لك ربي } وقوله { سلام عليكم بما صبرتم } وقوله { سلام على نوح } و { سلام على إبراهيم } وقوله { سلام على عباده الذين اصطفى } وقد جاء بالالف واللام قال تعالى { والسلام على من اتبع الهدى } و { والسلام علي يوم ولدت } وزعم ابو الحسن ان من العرب من يقول: السلام عليكم، ومنهم من يقول سلام عليكم فمن ألحق فيه الالف واللام حمله على المعهود. ومن لم يلحقه حمله على غير المعهود, وزعم أن منهم من يقول سلام عليكم بلا تنوين، وحمل ذلك على وجهين:
أحدهما - انه حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الاصل في نحو لم يك ولا ادر ويوم يأت.
والآخر - انه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الالف والام جاز حذفها منها لكثرة الاستعمال كما حذفوا من اللهم فقالوا: لا هم كما قال الشاعر:

لا هم لا هم ان عامر العجوز قد حبس الخيل على يعمور

ومن قرأ (سلم) بلا الف احتمل امرين: احدهما - ان يكون بمعنى (سلم) والمعنى أمرنا سلم وسلم عليكم، ويكون سلام بمعنى سلم، كقولهم حل وحلال، وحرم وحرام، انشد الفراء:

وقفنا فقلنا ايه سلم فسلمت كما اكيل بالبرق الغمام اللوائح

وروي كما انكل. ثم قال الفراء في رفع سلام انه حين نكرهم، قال هو سلم ان شاء الله، من أنتم؟ فعلى هذا القراءتان بمعنى واحد. والآخر أن يكون (سلم) خلاف العدو، والحرب. كأنهم لما كفوا عن تناول ما قدم اليهم فنكرهم واوجس منهم خيفة، قال انا سلم، ولست بحرب ولا عدو، فلا تمتنعوا من تناول طعامي، كما يمتنع من تناول طعام العدو، وقوله { ولقد } دخلت اللام لتأكيد الخبر، كما يؤكد القسم، ومعنى (قد) هنا ان السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، و (قد) للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. أخبر الله تعالى أنه لما جاءت رسل ابراهيم يبشرونه.
وقيل في البشارة بماذا كانت قولان:
احدهما - قال الحسن كانت بأن الله تعالى يهب له اسحاق ولداً ويجعله رسولا الى عباده.
وقال غيره كانت البشارة باهلاك قوم لوط. وقوله { قالوا سلاماً } حكاية ما قال رسل الله لابراهيم مجيباً لهم { سلام }.
وقوله { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } معنى ذلك لم يتوقف حتى جاء - على عادته في اكرام الاضياف وتقديم الطعام اليهم - بعجل، وهو ولد البقرة يسمى بذلك لتعجيل امره بقرب ميلاده. ويقال: فيه عجول وجمعه عجاجيل، و { الحنيذ } المشوي ومعناه محنوذ، فجاء "فعيل" بمعنى "مفعول" كطبيخ ومطبوخ، وقتيل ومقتول تقول: حنذه حنذاً ويحنذه قال العجاج:

ورهبا من حنذه أن يهجرا

يعني الحمراء الوحشية أي حنذها حر الشمس على الحجارة. وقال الحسن حنيذ بمعنى نضيج مشوي. وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: نضيج.
وحكى الزجاج أن الحنيذ هو الذي يقطر ماؤه تقول العرب أحنذ هذا الفرس أي جلله حتى يقطر عرقاً.
وانما قدم الطعام اليهم وهم ملائكة لأنه رآهم في صورة البشر، فظنهم أضيافاً.
وقال الحسن: جاؤوه فاستضافوه، والا لم يخف عليه أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون. وقوله { أن جاء } في موضع نصب بوقوع لبث عليه، كأنه قال فما ابطأ عن مجيئه بعجل، فلما حذف حرف الجر نصب.
قال الفراء: ويحتمل { أن جاء بعجل } أن يكون في موضع رفع بأن تجعل { لبث } فعلا له كأنك قلت فما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ، قال الفراء: (الحنيذ) ما حفرت له في الأرض ثم عممته وهو فعل أهل البادية. قال الفراء وغيره: وانما خافهم ابراهيم من حيث لم ينالوا طعامه، لان عادة ذلك الوقت اذا قدم الطعام إلى قوم فلا يمسونه ظنوا أنهم أعداء.