التفاسير

< >
عرض

أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ
١٧
-الرعد

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل الكوفة إلا ابا بكر { ومما يوقدون } بالياء. الباقون بالتاء. قال أبو علي: من قرأ بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله { قل أفاتخذتم } ويجوز ان يكون خطاباً عاماً، يراد به الكافة، فكان المعنى { مما توقدون } عليه ايها الموقدون زبد مثل زبد الماء الذي عليه السيل { فأما الزبد فيذهب جفاء } لا ينتفع به كما ينتفع بما يخلص بعد الزبد من الماء والذهب والفضة والصفر. ومن قرأ بالياء، فلان الغيبة قد تقدم في قوله { أم جعلوا لله شركاء } ويجوز ان يراد به جميع الناس ويقوي ذلك قوله { وأما ما ينفع الناس } فكما ان الناس يعم المؤمن والكافر كذلك الضمير في { يوقدون } وقال { ومما يوقدون عليه في النار } كقوله { فأوقد لي يا هامان على الطين } فهذا إيقاد على ما ليس في النار، وان كان يلحقه وهجها ولهبها. وأما قوله { بورك من في النار } فالمعنى على من في قرب النار، وليس يراد به متوغلها { ومن حولها } ومن لم يقرب منها قرب الآخرين ألا ترى ان قوله { وممن حولكم من الأعراب منافقون } لم يقرب المنافقون الذين حولهم فيه قرب المخالطين لهم حيث يحضرونه ويشهدونه في مشاهدهم.
قال الحسن يقول الذي { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } الى قوله { ابتغاء حلية } الذهب والفضة والمتاع والصفر والحديد { كذلك يضرب الله الحق والباطل } كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد، فيخلص خالصه، { كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } قال فكذلك الحق بقي لأهله فانتفعوا به.
وقرأ الحسن { بقدرها } بتخفيف الدال وهما لغتان يقال أعطى قدر شبر وفي المصدر بالتخفيف لا غير تقول: قدرت اقدر قدراً، وفي المثل التخفيف، والتثقيل تقول: هم يختصمون في القدر بالسكون والحركة قال الشاعر:

الا يا لقوم للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري

أخبر الله تعالى انه هو الذي ينزل من السماء ماء يعني الامطار والغيوث، فتسيل هذه المياه أودية بقدرها من القلة والكثرة. والسيل جري الماء من الوادي على وجه الكثرة. يقال جاء السيل يغرق الدنيا، وسال بهم السيل إذا جحفهم بكثرته. والوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، ومنه اشتقاق الدية، لانه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، والقدر إقران الشيء بغيره من غير زيادة ولانقصان. والوزن يزيد وينقص، فاذا كان مساوياً، فهو القدر.
وقوله { فاحتمل السيل زبداً رابياً } فالاحتمال رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له، ويقال علا صوته على فلان فاحتمله، ولم يغضبه، فقوله هذا يحتمل وجهين: معناه له قوة يحمل بها الوجهين، والزبد وضر الغليان، وهو خبث الغليان ومنه زبد القدر، وزبد السيل، وزبد البعير. والجفاء ممدود مثل الغثاء وأصله الهمزة يقال جفا الوادي جفاء. قال الفراء: كل شيء ينضم بعضه الى بعض فأنه يجيء على (فعال) مثل الحطام والقماش والغشاء والجفاء، فاذا أردت المصدر، فهو مقصور.
وقوله { رابياً } معناه زائداً، يقال ربا يربو رباً فهو راب. ومنه الربا المحرم.
وقوله { ومما توقدون عليه } اي ومن ذلك توقدون عليه زبد مثله، والايقاد القاء الحطب في النار أوقد ايقاداً واستوقدت النار واتّقدت وتوقّدت.
وقوله { ابتغاء حلية } معناه طلب حلية من الذهب والفضة أو متاع يعني الصفر والحديد، والمتاع ما تمتعت به قال الشاعر:

تمتع يا مشعّث إن شيئاً سبقت به الممات هو المتاع

{ زبد مثله } يعني من الذي يوقد عليه زبد مثل زبد السيل، ومثل الشيء ما سد مسده، وقام مقامه، فيما يرجع الى ذاته.
وقوله { كذلك يضرب الله الحق والباطل } اي يضرب المثل للحق والباطل، وضرب المثل تسييره في البلاد حتى يتمثل به الناس.
وقوله { فأما الزبد فيذهب جفاء } اخبار منه تعالى ان الزبد الذي يعلو على الماء والنار يذهب باطلاً وهالكاً، قال أبو عبيدة قال أبو عمرو، وتقول العرب أجفأت القدر إِذا غلت فانصب زبدها، وسكنت فلا يبقى منه شيء. والجفاء ممدود مثل الغثاء، واصله الهمز.
وقوله { وأما ما ينفع الناس } من الماء الصافي، والذهب، والفضة، والحديد، والصفر { فيمكث في الأرض } اي يلبث ويثبت. والمكث الكون في المكان على مرور الزمان مكث يمكث مكثاً وتمكث تمكثاً والمكث طول المقام.
وقوله { كذلك يضرب الله الأمثال } اي يضرب الله مثل الحق والباطل بالماء الذي ينزل من السماء، وبجواهر الارض، فإن لهما جميعاً زبداً، هذا عند سيله وجريه، وهذا عند اذابته بالنار وهو وسخه وخبثه، فالحق ثابت كالماء الذي يبقى في الارض ينبت به الزرع والشجر وكالجواهر التي في ايدي الناس تصبر على النار، فلا تبطل فينتفعون بها. والباطل كزبد هذين يذهب، لا منفعة فيه بعد ان يرى له حركة واضطراب. وفي ذلك تنبيه لمن تقدم ذكره من المشركين الذين سألوا الآيات على سبيل التكذيب والعناد.