التفاسير

< >
عرض

ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
١٢٥
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
١٢٨
-النحل

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابن كثير وإِسماعيل عن نافع { ضيق } بكسر الضاد. الباقون بفتحها، فمن فتح اراد { ضيق } فخفف مثل سيد وسيد، وميت وميت وهين وهين. ويجوز ان يكون أراد جمع ضيقة كما قال الشاعر:

كشف الضيقة عنا وفسح

ومن كسر يجوز أن يجعله لغتين، ويجوز أن يكون الضَيق إِسماً والضِيق مصدراً والاختيار ان يقال: الضِيق في المكان والمنزل، والضَيق في غير ذلك، فان كان كذلك "فالاختيار ولا تك في ضَيق" لأنه تعالى لم يرد ضيق المعيشة، ولا ضيق المنزله. وأصل { ولا تك } ولا تكن، فاستثقلوا الضمة على الواو فنقلوها إِلى الكاف، فالتقى ساكنان: الواو، والنون؛ فحذفوا الواو؛ لالتقاء الساكنين، ومن حذف النون أيضاً، فلان النون ضارعت حروف المدّ واللين، وكثر استعمال (كان يكون) فحذفوها كذلك ألا ترى أنك تقول: لم يكونا. والأصل يكونان فأسقطوا النون بالجزم وشبهوا لم يك في حذف النون بلم يكونا.
أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو عباده المكلفين بالحكمة، وهو أن يدعوهم إِلى أفعالهم الحسنة التي لها مدخل في استحقاق المدح والثواب عليها، لأن القبائح يزجر عنها، ولا يدعو اليها، والمباح لا يدعو إِلى فعله، لأنه عبث، وإِنما يدعو إِلى ما هو واجب أو ندب، لانه يستحق بفعله المدح والثواب، والحكمة هي المعرفة بمراتب الافعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد. وقيل لها: حكمة، لانها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يختار، والاصل المنع كما قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إِني أخاف عليكم أن أغضبا

أي امنعوهم من السفه، والفرق بين الحكمة والعقل: أن العاقل هو العاقد على ما يمنع من الفساد، والحكيم هو العارف بما يمنع من الفساد، والحكمة مشتركة بين المعرفة وبين العقل المستقيم، لان كل واحد منهما ممتنع من الفساد عارٍ منه. والقديم تعالى لم يزل حكيماً بمعني لم يزل عالماً، ولا يجوز لم يزل حكيما فيما يستحق لاجل الفعل المستقيم، وكل حكمة يكون بتركها مضيعاً لحق النعمة يجب على المكلف طلبها. معرفة كانت أو فعلا. والموعظة الحسنة. معناه الوعظ الحسن وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والتزهيد في فعله. وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع. وقيل: ان الحكمة النبوة. والموعظة القرآن { وجادلهم بالتي هي أحسن } فالجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج { بالتي هي أحسن } وفيه الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحق بالحجة. ثم أخبر { إن ربك } يا محمد { أعلم بمن ضل عن سبيله } بأن عدل عنها و { أعلم } من غيره بمن اهتدى اليها وليس عليك غير الدعاء.
وقوله { وإن عاقبتم فعاقبوا } قيل: في سبب نزول هذه الآية قولان:
احدهما - ان المشركين لما مثَّلوا بقتلى أُحُد. قال المسلمون: متى اظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم اعظم مما مثلوا بنا. ذكره الشعبي وقتادة وعطاء.
الثاني - قال مجاهد وابن سيرين وابراهيم: انه في كل ظالم بغصب او نحوه. فإِنما يجازى بمثل ما عمل.
وقيل: إِن هذه الآية منسوخة بآية القتال، لان هذا قبل ان يؤمروا بالجهاد ثم قال { ولئن صبرتم } اي إِن تركتم المجازاة والقصاص وتجرعتم مرارته { لهو خير للصابرين } في العاقبة. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته معه { واصبر } يا محمد وليس صبرك { إِلا بالله } اي إِلا بتوفيق الله وإِقداره وترغيبه فيه { ولا تحزن عليهم } يعني على المشركين، لإِعراضهم عنك. وقيل المراد لا تحزن على قتلى أُحُد لما اعطاهم الله من الخير { ولا تك في ضيق مما يمكرون } اي لا يكن صدرك ضيقا مما يمكر به المشرك من الخديعة وغيرها، وما فعلوا بقتلى أُحُد من المثلى { إِن الله مع الذين اتقوا } معاصيه خوفاً من عقابه، بالنصر لهم والتأييد، ومع { الذين هم محسنون } في افعالهم، غير فاعلين للقبائح يقذف في قلوب اعدائهم الرعب، خوفاً من رسول الله وسراياه