التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
-النحل

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ نافع وابن عامر وابو بكر عن عاصم { نسقيكم } بفتح النون الباقون بضمها. والفرق بين اسقينا وسقينا أنّ معنى اسقيناه جعلنا له شراباً دائماً من نهر أو لبن او غيرهما، وسقيناه شربة واحدة، ذكره الكسائي قال لبيد:

سقي قومي بني مجد وأسقى نُميراً والقبائل من هلال

فعلى هذا هما لغتان، والأظهر ما قال الكسائي. عند اهل اللغة. وقال قوم: سقيته ماء كقوله { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } واسقيته سألت الله ان يسقيه وانشد لذي الرّمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثَّه تكلمني أحجاره وملاعبه

وقيل ان ما كان من الأنهار وبطون الأودية، فبالضم. وقال ابو عبيدة: إِذا سقاه مرة يقال سقيته، واذا سقاه دائماً يقال أسقيته.
يقول الله تعالى لخلقه المكلفين { إِن لكم في الأنعام } يعني الابل والبقر والغنم { لعبرة } ودلالة لأنّا { نسقيكم مما في بطونه } وقيل في تذكيره ثلاثة اقوال:
احدها - انه ردّ الى واحد. لان النعم والانعام بمعنى، قال سيبويه: والاسم الواحد يجيء على (افعال) يقال هو الانعام. قال تعالى { في بطونه } ذهب الى أنه اسم واحد بلفظ الجمع، كما أن الخيل اسم مؤنث، لا واحد له، والنعم اسم مذكر للجماعة، لا واحد له، وقال الراجز:

وطاب ألبان اللقاح فبرد

رده الى اللبن.
الثاني - انه حمل على المعنى، والتقدير بطون ما ذكرنا، كما قال الصلتان العبدي:

إِن السماحة والمرؤة ضمنا قبراً بمرو في الطريق الواضح

كأنه قال شيئان ضمنا.
الثالث - لانه في موضع (اي) كأنه قال { نسقيكم مما في بطونه } اي من اي الانعام وكان في بطونه اللبن، لأنه ليس كلها مما فيه لبناً.
وقوله { من بين فرث ودم لبناً خالصاً } فالفرث الثفل الذي ينزل الى الكرش فبين انه تعالى يخرج ذلك اللبن الصافي، اللذيذ، المشهى من بين ذلك، وبين الدم الذي في العرق النجس { سائغاً للشاربين } أي مريئاً لهم لا ينفرون منه، ولا يشرقون بشربه، وذلك من عجيب آيات الله ولطف تدبيره وبديع حكمته، الذي لا يقدر عليه غيره، ولا يتأتى من احد سواه.
ثم قال { ومن ثمرات } وهو جمع ثمرة، وهو ما يطعمه الشجر، ما فيه اللذة والثمرة خاصة طعم الشجر مما فيه اللذة يقال: اثمرت الشجرة إِثماراً اذا حملت كالنخلة والكرمة وغيرهما من اصناف الشجر.
وقوله { يتخذون منه سكراً } قيل في معنى السكر قولان:
احدهما - تتخذون منه ما حل طعمه من شراب او غيره، ذكره الشعبي وغيره.
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة: ان السكر ما حرم من الشراب، والرزق الحسن ما احل منه. والسكر في اللغة على اربعة اقسام: احدها ما اسكر، والثاني ما طعم من الطعام كما قال الشاعر:

جعلت عيب الاكرمين سكرا

اي طعماً، الثالث السكون قال الشاعر:

وجعلت عين الحرور تسكر

والرابع، المصدر من قولك سكر سكراً، واصله انسداد المجاري بما يلقى فيها, ومنها السكر. وقوله { منه } الكناية راجعة الى محذوف، قال قوم: تقديره ومن ثمرات النخيل والاعناب ما تتخذون منه، فالهاء كناية عن (ما) المحذوفة وقال آخرون: تقديره ومن ثمرات النخيل والاعناب شيء تتخذون منه.
وقد استدل قوم بهذه الآية على تحليل النبيذ بأن قالوا: امتن الله علينا به وعدّه من جملة نعمه علينا أن خولنا الثمار نتخذ منها السكر، والرزق الحسن. وهو لا يمتنّ بما هو محرم. وهذا لا دلالة فيه لأمور:
احدها - انه خلاف ما عليه المفسرون، لأن احداً منهم لم يقل ذلك، بل كلّ التابعين من المفسرين، قالوا: اراد ما حرم من الشراب؛ وقال الشعبي منهم: انه أراد ما حل طعمه من شراب وغيره.
والثاني إِنه لو اراد بذلك تحليل السكر، لما كان لقوله { ورزقاً حسناً } معنى، لأن ما احله واباحه، فهو ايضا رزق حسن، فلم فرق بينه وبين الرزق الحسن والكل شيء واحد؟؟ وانما الوجه فيه انه خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم انتم منها ما هو محرم عليكم، وتركتم ما هو رزق حسن. واما وجه المنّة فبالامرين معاً ثابتة، لأن ما اباحه واحله فالمنّة به ظاهرة لتعجل الانتفاع به وما حرمه الله فوجه المنّة ايضا ظاهر به، لانه إِذا حرّم علينا، واوجب الامتناع منه ضمن في مقابلته الثواب الذي هو اعظم النعم، فهو نعمة على كل حال.
والثالث - اذا كان مشتركاً بين المسكر وبين الطعم، وجب أن يتوقف فيه ولا يحمل على احدهما إِلا بدليل، وما ذكرناه مجمع على أنه مراد، وما ذكروه ليس عليه دليل، على انه كان يقتضي ان يكون ما اسكر منه يكون حلالاً، وذلك خلاف الاجماع، لانهم يقولون: القدر الذي لا يسكر هو المباح، وكان يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحاً، وذلك لا يقوله احد؛ وكذلك كان يلزم ان يكون النقيع حلالاً، وذلك خلاف الاجماع.
وقوله { إِن في ذلك لآية لقوم يعقلون } معناه إِن فيما ذكره دلالة ظآهرة للذين يعقلون عن الله ويتفهمون ويفكرون فيه.