التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً
٣١
وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً
٣٢
وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً
٣٣
-الإسراء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابن كثير "خطاء" بكسر الخاء وبألف بعد الطاء ممدوداً. وقرأ ابو جعفر وابن ذكوان - بفتح الخاء والطاء - من غير ألف بعدها وبغير مد. الباقون بكسر الخاء من غير مد، إِلا ان الداجوني عن هشام روى وجهين: أحدهما - مثل أبي عمرو، والآخر - مثل أبي جعفر. وقرأ أهل الكوفة إِلا عاصماً { فلا تسرف } بالتاء. الباقون بالياء. قال ابو علي الفارسي: قول ابن كثير (خِطاء) يجوز ان يكون مصدر خاطأ، وان لم يسمع (خاطأ) ولكن قد جاء ما يدل عليه، لأن ابا عبيدة انشد:

تخاطأت النبل أحشأه

وانشدنا محمد بن السدي في وصف كمأة:

وأشعث قد ناولته أحرس القرى أدرَّت عليه المدجنات الهواضب
تخاطاءه القناص حتى وجدته وخرطومه من منقع الماء راسب

فتخاطأت مما يدل على خاطأ، لأن (تفاعل) مطاوع (فاعل) كما ان (تفعّل) مطاوع فعل، وقول ابن عامر (خطأ)، فان الخطأ ما لم يتعمد، وما كان المأثم فيه موضوعاً عن فاعله، وقد قالوا: اخطأ في معنى خطىء، كما ان خطىء في معنى اخطأ، قال الشاعر:

عبادك يخطئون وأَنت ربٌّ كريم لا تليق بك الذُّموم

ففحوى الكلام أنهم خاطئون، وفي التنزيل { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فالمؤاخذة من المخطىء موضوعة، فهذا يدل على ان اخطأ في قوله:

يا لهف هند إِذ خطئن كاهلاً

وفي قول آخر:

والناس يلحون الأمير اذا هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

اي اخطؤه، وكذلك قول ابن عامر (خطأ) في معنى أخطأ، وجاء الخطأ في معنى الخطاء، كما جاء خطىء في معنى اخطأ. وقال ابو الحسن: هذا خطاء من رايك؛ فيمكن أن يكون خطأ لغة فيه أيضاً. ومن قرأ "خطأ" فلانه يقال خطىء يخطأ خطأ إِذا تعمد الشيء حكاه الاصمعي، والفاعل منه خاطىء، وقد جاء الوعيد فيه في قوله { لا يأكله إِلا الخاطئون } ويجوز أن يكون الخِطأ لغة في الخطأ مثل المثل والمثل، والشبه والشبهه، والبدل والبدل، قال الفراء: لغتان مثل قتب وقتب، وبدل وبدل، وحكى ابن دريد عن أبي حاتم، قال تقول: مكان مخطؤ فيه من خطئت ومكان مخطأ فيه من اخطأ يخطىء، ومكان مخطوّ بغير همزة من تخطى الناس فيخطَّى، ومن همزه تخطيت الناس، فقد غلط وقال المبرد: خطَّأه وخطاه بمعنى، عند ابي عبيدة والفراء والكسائي، إِلاّ ان (الخطأ) بكسر الخاء أكثر في القرآن (والخطأ) بالفتح افشى في كلام الناس ولم يسمع الكثير في شيء من اشعارهم الا في بيت قاله الشاعر:

الخِطأ فاحشة والبرّ فاضلة كعجوة غرست في الأرض توبير

قال ابو عبيد: وفيه لغتان، خطئت وأخطأت، فمن قال: خطئت قال خطأ الرجل يخطأ خطأ، وخطاء، يكون الخطأ بفتح الخاء هو المصدر، وبكسرها الاسم. ومن قال اخطأت كان الخطأ بالفتح والكسر، جميعاً اسمين والمصدر الإخطاء.
وقال أبو علي: قوله { فلا يسرف في القتل } فاعل يسرف يجوز أن يكون أحد شيئين:
أحدهما - أن يكون القاتل الأول، فيكون التقدير فلا يسرف القاتل في القتل وجاز أن يضمر، وإِن لم يجر له ذكر، لأن الحال تدل عليه، ويكون تقديره بالاسراف جارياً مجرى قوله في أكل مال اليتيم
{ ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } وإِن لم يجز أن تأكل منه لا على الاقتصاد ولا على غيره، لقوله { إِن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إِنما يأكلون في بطونهم ناراً } فحظر أكل مال اليتيم حظراً عامّاً وعلى كل حال، فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول لا تسرف في القتل، لأنه يكون بقتله مسرفاً، ويؤكد ذلك قوله { يا عبادي الذين أسرفواعلى أنفسهم } فالقاتل داخل في هذا الخطاب - بلا خلاف - مع جميع مرتكبي الكبائر، ويكون الضمير على هذا في قوله { إنه كان منصوراً } على قوله { ومن قتل مظلوماً } [وتقديره، فلا يسرف القاتل الأول بقتله في القتل، لأن من قتل مظلوماً كان منصوراً] بأن يقتص له وليّه أو السلطان إِن لم يكن له وليّ غيره، فيكون هذا ردعاً للقاتل عن القتل، كما أن قوله { ولكم في القصاص حياة } كذلك، فالولي إِذا اقتص، فإِنما يقتص للمقتول، ومنه انتقل إِلى الولي بدلالة أن المقتول يبرىء من السبب المؤدي إِلى القتل، ولم يكن للولي أن يقتص، ولو صالح الولي من العمد - على مال كان - للمقتول أن يؤديه منه ديناً عليه أن يقتص منه دون المقتول، ولا يمتنع أن يقال في المقتول منصور، لانه قد جاء قوله { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا }.
والآخر - أن يكون في يسرف ضمير الولي، وتقديره فلا يسرف الولي في القتل، وإِسرافه فيه أن يقتل غير من قتل او يقتل اكثر من قاتل وليه، لان مشركي العرب كانوا يفعلون ذلك، والتقدير فلا يسرف في القتل ان الولي كان منصوراً بقتل قاتل وليّه. والاقتصاص منه.
ومن قرا بالتاء احتمل ايضاً وجهين:
احدهما - ان يكون المستثنى القاتل ظلماً، فقيل له لا تسرف ايها الإنسان فقتل ظلماً من ليس لك قتله، اذ من قتل مظلوماً كان منصوراً بأخذ القصاص له.
والآخر - ان يكون الخطاب للولي، والتقدير لا تسرف في القتل ايها الولي فتتعدى قاتل وليّك الى من لم يقتله، لان المقتول ظلماً كان منصوراً، وكل واحد من المقتول ظلماً ومن وليّ المقتول قد تقدم في قوله { ومن قتل مظلوماً } الآية.
وقوله { ولا تقتلوا } يحتمل موضعه شيئين من الاعراب:
احدهما - ان يكون نصباً بـ { قضى ربك أن لا تعبدوا إِلا إِياه... ولا تقتلوا }
ويحتمل ان يكون جزماً على النهي، فيكون الله تعالى نهى الخلق عن قتل اولادهم خشية الاملاق.
و (الاملاق) الفقر، وهو قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وانما نهاهم عن ذلك لانهم كانوا يئدون البنات بدفنهم احياء فنهاهم الله عن ذلك.
وقوله { نحن نرزقهم وإِياكم } إِخبار منه تعالى انه الذي يرزق الاولاد و الآباء فلا ينبغي قتلهم خوف الفقر، واخبر ان قتلهم في الجاهلية { كان خطأ كبيراً } وهو الآن خطأ وإِثم كبير، ثم قال { ولا تقربوا الزنى } ومعناه لا تزنوا، والزنا هو وطؤ المراة حراماً بلا عقد ولا شبهة عقد مختاراً، ثم اخبر ان الزنا فاحشة اي معصية كبيرة { وساء سبيلاً } اي بئس الطريق ذلك. وفي الناس من قال: الزنا قبيح بالعقل لما في ذلك من ابطال حق الولد على الوالد، وفساد الانساب. وقوله { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله } نهي من الله تعالى عن قتل النفوس المحرم قتلها، واستثنى من ذلك من يجب عليه القتل إِمّا لكفره، او ردّته، او قتله قصاصاً، فان قتله كذلك حق، وليس بظلم، وقد فسرنا تمام الآية.
والسلطان الذي جعله الله للولي، قال ابن عباس، والضحاك: هو القَود أو الدّية او العفو. وقال قتادة الهاء في قوله { إنه كان منصوراً } عائدة على الولي. وقال مجاهد عائدة على المقتول. ونصرة الله له بذلك حكمه له بذلك. وقيل نصرة النبي والمؤمنين، ان يعينوه. وقيل الولي هم الوراث من الرجال من الاولاد الذكور ومن الاقارب من كان من قبل الاب.