التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
١
قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً
٢
مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً
٣
-الكهف

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو بكر { لدنه } باسكان الدال واشمال الضمة، وكسر النون والهاء وإيصالها بياء. الباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء من غير واو، إلا ابن كثير، فانه كان يصل الهاء بواو.
واعلم أن { لدن } اسم غير متمكن، ومعناه (عند)، قال الله تعالى
{ { من لدن حكيم خبير } فالنون ساكنة في كل أحوالها، والهاء إذا أتت بعد حرف ساكن لم يجز فيها إلا الضم نحو (منه) فالاصل (منهو) و (لهو) فهو كقول ابن كثير، غير أنهم حذفوا الواو اختصاراً، وإنما أسكن ابو بكر الدال استثقالا للضم كما قالوا "في كرم زيد": قد كرم زيد، فلما سكن الدال التقى ساكنان، النون والدال، فكسر النون لالتقاء الساكنين، وكسر الهاء لمجاورة حرف مكسور، ووصلها بهاء كما تقول: مررت به، ولو فتح النون لالتقاء الساكنين لجاز، بعد أن أسكن الثاني كقول الشاعر:

عجبت لمولود وليس له أب ومن ولد لم يلده ابوان

يعني آدم وعيسى. فلا يتوهم أن عاصماً كسر النون علامة للجزم، لان { لدن } لا تعرب. وحكى ابو زيد: جئت فلاناً لدن غدوة - بفتح الدال -.
يقول الله تعالى لخلقه قولوا { الحمد لله الذي } خص برسالته محمداً (صلى الله عليه وسلم) وانتجبه لابلاغها عنه، وبعثه الى خلقه نبياً رسولا، وانزل عليه كتاباً قيما، ولم يجعل له عوجاً. وقيل في معنى قوله { قيماً } قولان: أحدهما - معتدلا مستقيما. الثاني - أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها. والأول قول ابن عباس. فعلى هذا "قيما" مؤخر، والمراد به التقدم، وتقديره أنزل الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً أي اختلافاً. وقال الضحاك: معناه مستقيماً. وقال ابن اسحاق: معناه معتدلا لا اختلاف فيه. وقال قتادة: أنزل الله الكتاب قيماً، ولم يجعل عوجاً. وفي بعض القراءات { ولكن جعله قيماً } وكسرت العين من قوله "عوجاً" لأن العرب تقول: عوجاً - بكسر العين - في كل اعوجاج كان في دين أو فيما لا يرى شخصه قائماً ولا يدرك عياناً منتصباً كالعوج في الدين، ولذلك كسرت العين في هذا الموضع. وكذلك العوج في الطريق، لانه ليس بالشخص المنتصب. فأما ما كان في الاشخاص المنتصبة فان عينها تفتح كالعوج في القناة والخشبة ونحوها.
وقال ابن عباس: معنى قوله { ولم يجعل له عوجاً } أي لم يجعله ملتبساً. ولا خلاف بين أهل العربية ان قوله { قيماً } وإن كان مؤخراً فتقديره الى جنب الكتاب.
وإنما افتتح الله تعالى هذه السورة بذكر نفسه بما هو أهله، وبالخبر عن انزال كتابه على رسوله، ليخبر المشركين من أهل مكة بأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) رسوله، لأن المشركين كانوا سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أشياء لقنوها إياهم اليهود، من قريظه والنضير، وأمروهم أن يسألوه عنها، وقالوا: إن اخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم فهو مقتول، فوعدهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجواب عنها، موعداً فأبطأ - على قول بعضهم - الوحي عنه بعض الابطاء وتأخر مجيء جبرائيل (ع) عنه، عن ميعاده القوم فتحدث المشركون بأنه اخلفهم موعده، وأنه مقتول، فأنزل الله هذه السورة جواباً عن مسائلهم، وافتتح أولها بذكره تكذبباً للمشركين فيما تحدثوا بينهم من احدوثتهم - ذكر ذلك محمد بن اسحاق باسناده عن عكرمة عن ابن عباس - وكان الذين ذهبوا الى اليهود وسألوهم عن أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) النضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، وكانت المسائل التي لقنوهم إياها: أن قالوا: سلوه عن ثلاثة اشياء، فان أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فانه مقتول، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فانه كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فان اخبركم بذلك فانه نبي مبعوث، فاتبعوه، وإن لم يخبر كم فانه مقتول. فرجعا الى مكة واجتمعا مع قريش فجاؤا الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسألوه عنها، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) اخبركم بذلك. وقال بعضهم: انه قال: اخبركم غداً بما سألتم، ولم يستثن، وانصرفوا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فمكث رسول الله خمس عشرة ليلة لا ينزل الله اليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل (ع) حتى اوجف أهل مكة، وتكلموا في ذلك، فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأنزل الله عليه جبرائيل ومعه (سورة الكهف) يخبره فيها عما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وانزل عليه
{ { ويسألونك عن الروح... } الآية.
فروى ابن إسحاق أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفتتح السورة، فقال { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً } أي معتدلا، لا اختلاف فيه.
وقوله { لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً } معناه أنزل على عبده القرآن معتدلا مستقيماً لا عوج فيه، لينذركم أيها الناس بأساً شديداً من أمر الله. ومعنى البأس العذاب العاجل والنكال الحاضر، والسطوة. ومعنى { من لدنه } من عند الله، وهو قول ابن اسحاق، وقتادة. ومفعول { لينذر } محذوف، لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لينذركم بأساً كلما قال
{ { يخوف أولياءه } وتقديره يخوفكم أولياءه، ومعنى { ويبشر المؤمنين } يعني المصدقين بالله ورسوله { الذين يعملون الصالحات } يعني ما أمرهم الله به من الطاعات، وهي الاعمال الصالحات، والانتهاء عما نهاهم عنه { أن لهم أجراً حسناً } يعني ثواباً جزيلاً من الله على ايمانهم بالله ورسوله، وعملهم في الدنيا بالطاعات واجتناب المعاصي، وذلك الثواب هو الجنة.
وقوله { ما كثين فيه أبداً } أي لابثين فيه ابداً خالدين مؤبدين لا ينتقلون عنه ولا ينقلبون، ونصب { ماكثين } على الحال من قوله { إن لهم أجراً حسناً } في هذه الحال، في حال مكثهم في ذلك الاجر.