التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً
٢٢
وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً
٢٣
إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً
٢٤
-الكهف

التبيان الجامع لعلوم القرآن

يقول الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم) انه سيقول قوم من المختلفين في عدد اصحاب الكهف فى هذا الوقت: انهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وطائفة أخرى يقولون: خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب، وتقول طائفة ثالثة: انهم سبعة وثامنهم كلبهم. وذهب بعضهم الى انهم سبعة لدخول واو العطف بعده في قوله { وثامنهم كلبهم } ولم يقل ذلك في الاول. وهذا ليس بشيء، لأنه انما لم يدخل الواو في الاول، لانه جاء على الصفة بالجملة، والثاني على العطف على الجملة. قال الرماني: وفرق بينهما، لأن السبعة أصل للمبالغة فى العدة، كما قال (عز وجل): { { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وحكى البلخي عن بعض أهل العلم أنه قال: الواجب أن يعد في الحساب: واحد اثنان ثلاثة اربعة، فاذا بلغت الى السبعة قلت: وثمانية - بالواو - اتباعاً للآية.
وقوله { رجماً بالغيب } قال قتادة: معناه قذفاً بالظن. وقال المؤرج: ظناً بالغيب بلغة هذيل. وقال قوم: ما لم تستيقنه فهو الرجم بالغيب قال الشاعر:

واجعل مني الحق غيباً مرجماً

وقال زهير:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم

ثم قال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم): قل لهم يا محمد: ربي اعلم بعدتهم، من الخائضين في ذلك والقائلين فى عددهم بغير علم. ثم قال تعالى: ليس يعلم عددهم إلا قليل من الناس، وهم النبي ومن أعلمه الله من نبيه. وقال ابن عباس: أنا من القليل الذين يعلمون ذلك: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
ثم قال تعالى، ناهياً لنبيه - والمراد به امته - { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً }. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك: معناه إلا بما أظهرنا لك من امرهم، والمعنى انه لا يجوز أن تماري وتجادل إلا بحجة ودلالة، واخبار من الله، وهو المراء الظاهر. وقال الضحاك: معناه حسبك ما قصصنا عليك. وقال البلخي: وفى ذلك دلالة على أن المراء قد يحسن إذا كان بالحق وبالصحيح من القول. وإنما المذموم منه ما كان باطلا والغرض المبالغة لا بيان الحق. والمراء الخصومة والجدل.
وقوله { ولا تستفت فيهم } يعني فى أهل الكهف، وفى مقدار عددهم { منهم } يعني من اهل الكتاب { أحداً } ولا تستفهم من جهتهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقوله { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } نهي من الله تعالى لنبيه ان يقول: اني افعل شيئاً في الغد إلا أن يقيد قوله بمشيئة الله، فيقول: ان شاء الله، لانه لا يأمن اخترامه، فيكون خبره كذباً. وإذا قيده بقوله إن شاء الله، ثم لم يفعل، لم يكن كاذباً. والمراد بالخطاب جميع المكلفين، ومتى اخبر المخبر عن ظنه وعزمه بأنه يفعل شيئاً فيما بعد ثم لم يفعل لا يكون كاذباً، لانه اخبر عن ظنه وهو صادق فيه. وقال قوم: "إلا أن يشاء الله" معناه إلا أن يشاء الله أن يلجئني الى تركه. وقال الفراء: قوله { إلا أن يشاء الله } بمعنى المصدر، فكأنه قال إلا مشيئة الله والمعنى إلا ما يريده الله. وإذا كان الله تعالى لا يشاء إلا الطاعات فكأنه قال: لا تقل اني افعل إلا الطاعات وما يقرب الى الله. وهذا وجه حسن. ولا يطعن في ذلك جواز الاخبار عما يريد فعله من المباحات التي لا يشاؤها الله، لأن هذا النهي ليس نهي تحريم، وانما هو نهي تنزيه، لانه لو لم يقل ذلك لما أثم بلا خلاف وانما هو نهي تحريم فيما يتعلق بالقبيح فانه لا يجوز أن يقول اني افعل ذلك بحال. والآية تضمنت أن لا يقول الانسان اني افعل غداً شيئاً إلا أن يشاء الله. فأما أن يعزم عليه من ذكر ذلك، فلا يلزم المشيئة فيه إلا ندباً. بغير الآية.
وقوله { واذكر ربك إذا نسيت } قال الحسن: معناه انه اذا نسي أن يقول: إن شاء الله، ثم ذكر فليقل ان شاء الله. وقال ابن عباس: له ان يستثني ولو الى سنة. وقال بعضهم: وله أن يستثني بعد الحنث إلا انه لا تسقط عنه الكفارة في اليمين، إلا إن يكون الاستثناء موصولا بالاجماع. وقال الحسن له أن يستثني ما لم يقم من مجلسه الذي هو فيه، فان قام بطل استثناؤه. وقال قوم { واذكر ربك إذا نسيت } أمراً ثم تذكرته، فان لم تذكره فقل { عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً }. وقال بعضهم: عسى أن يعطيني ربي من الرشد ما هو أولى من قصة اصحاب الكهف.
والذي نقوله: ان الاستثناء متى لم يكن متصلا بالكلام أو فى حكم المتصل، لم يكن له تعلق بالاول ولا حكم له، وانه يجوز دخول الاستثناء بمشيئة الله في جميع انواع الكلام: من الامر. والنهي، والخبر، والأيمان، وغير ذلك. ومتى استثنى ثم خالف لم يكن حانثاً في يمينه ولا كاذباً في خبره. ومتى هو استثناه بعد مدة بعد انفصال الكلام لم يبطل ذلك حنثه ولزمته الكفارة. ولو لم نقل ذلك أدى الى ان لا يصح يمين ولا خبر ولا عقد، فان الانسان متى شاء استثنى في كلامه ويبطل حكم كلامه.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) انه قال:
"من حلف على أمر يفعله ثم رأى ما هو خير له فليحنث وليكفر عن يمينه" ولو كان الاستثناء جائزاً بعد مدة، لكان يقول فليستثني ولا يحتاج الى الكفارة ولا يلزمه الحنث.
وقد روي في اخبارنا مثل ما حكيناه عن ابن عباس. ويشبه أن يكون المراد به أنه اذا استثنى وكان قد نسي من غير تعمد فانه يحصل له ثواب المستثني دون أن يؤثر في كلامه، وهو الاشبه بابن عباس وأليق بعمله وفعله، فان ما حكي عنه بعيد جداً. وقال المبرد، وجماعة: إن قوله { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } ضم الاستثناء الى الكلام الذي قبله. ثم قال { واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى } استأنف كلاماً آخر وقصة أخرى. وقال الجبائي هذا استئناف كلام من الله، وأمر منه لنبيه (صلى الله عليه وسلم) أنه اذا أراد فعلا من الافعال فنسيه فليذكر الله وليقل عسى أن يهديني ربي لاقرب مما نسيته رشداً. وقال عكرمة: { اذكر ربك إذا نسيت } معناه اذا نسيت امراً فاذكر ربك تتذكره، وهذا يدل على أنه لم يرد اليمين في الاستثناء.
وقيل سبب نزول ذلك أن قريشاً لما جاءت وسألت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن قصة اصحاب الكهف وقصة ذي القرنين، فقال لهم: غداً اخبركم، فأبطأ عنه جبرائيل. وقيل تأخر عنه اياماً ثم أتاه بخبرهم. وهذا ليس بصحيح، لانه لو كان كذلك بأن وعدهم بأن يخبرهم غداً ثم لم يخبرهم لكان كذباً، وهو منه محال. وقال ابراهيم: اذا حلف الحالف والكلام متصل فله استثناؤه اذا قال ان شاء الله. وقال الكسائي والفراء: التقدير: ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غداً إلا أن تقول ان شاء الله فأضمر القول. وانما كان الاستثناء مؤثراً اذا كان الكلام متصلا لانه يدل على انه يؤل كلامه، وإذا لم يكن متصلاً فقد استقرت نيته وثبتت فلا يؤثر الاستثناء فيها.
وروي عن ابن عباس انه قال: { رابعهم كلبهم } يعني راعياً يتبعهم، حكاه قطرب. وقال اخبر عن الكلب وأراد صاحبه، كقوله { واسأل القرية }. وانما اراد اهلها. [وهذا لا يصح مع ظاهر قوله { وكلبهم باسط ذارعيه }] وقال الجبائي: لما اجتازوا على الراعي، فقال لهم اين تريدون قالوا: نفر بديننا، فقال الراعي: انا أولى بذلك، فتبعهم وتبعه الكلب. وفي اصحاب الحديث من يقول: ان الكلب خاطبهم بالتوحيد والاعتراف بما اعترفوا به، ولذلك تبعهم. وهذا خرق عادة يجوز أن يكون الله فعله لطفاً لهم، ومعجزة لبعضهم على ما حكي ان بعضهم كان نبياً، وهو رئيسهم، فيكون ذلك معجزة له، غير انه ليس بمقطوع به.
وقوله { عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً } معناه قل يا محمد عسى ان يعطيني ربي من الآيات على النبوة ما يكون اقرب وأدل من قصة اصحاب الكهف.