التفاسير

< >
عرض

وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً
٦٠
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً
٦١
-الكهف

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ عاصم { لمهلكهم } بفتح الميم واللام، في رواية أبي بكر عنه. وفي رواية حفص - بفتح الميم وكسر اللام - الباقون بضم الميم وفتح اللام، من فتح الميم واللام جعله مصدراً، لهلك يهلك مهلكا، مثل طلع مطلعاً، ومن كسر اللام جعله وقت هلاكهم أو موضع هلاكهم مثل مغرب الشمس. وحكى سيبويه عن العرب: أتت الناقة على مضربها ومنتجها - بالكسر - أي وقت ضرابها ونتاجها. وإنّ فى الف (لمضربا) بفتح الراء أي ضرباً جعلها مصدراً ومن ضم الميم وفتح اللام - وهو الاختيار - فلان المصدر من (أفعل) والمكان يجيء على (مفعل) كقوله { { أدخلني مدخل صدق } كذلك: أهلكه الله مهلكاً. وكل فعل كان على (فعل يفعل) مثل ضرب يضرب فالمصدر مضرب بالفتح، والزمان والمكان (مفعل) بكسر العين، وكل فعل كان مضارعه (يفعل) بالفتح نحو يشرب ويذهب، فهو مفتوح أيضاً نحو المشرب والمذهب. وكل فعل كان على (فعل يفعل) بضم العين في المضارع نحو يدخل ويخرج، فالمصدر والمكان منه بالفتح نحو المدخل والمخرج إلا ما شذ منه نحو المسجد، فانه من سجد يسجد، وربما جاء في (فعل يفعل) المصدر بالكسر كقوله { { إلى الله مرجعكم } أي رجوعكم، ونحو قوله { { ويسئلونك عن المحيض } ونحو قوله { { وجعلنا النهار معاشاً } فهذا مصدر وربما جاء على المعيش مثل المحيض كما قال الشاعر:

اليك أشكوا شدة المعيش ومرّ ايام نتفن ريشي

اخبر الله تعالى أن تلك القرى أهلكناهم يعني أهل القرية، ولذلك قال: (هم): ولم يقل (ها) لأن القرية هي المسكن مثل المدينة والبلدة. والبلدة لا تستحق الهلاك، وانما يستحق العذاب اهلها، ولذلك قال { لما ظلموا } يعني أهل القرية الذين أهلكناهم. والاهلاك اذهاب الشيء بحيث لا يوجد، فقيل هؤلاء أهلكوا بالعذاب. والاهلاك والاتلاف واحد، وقولهم الضائع هالك من ذلك لانه بحيث لا يوجد. وقوله { وجعلنا لمهلكهم } أي لوقت اهلاكهم - فى من ضم الميم - أو لوقت هلاكهم - فى من فتحها - { موعداً } أي ميقاتاً وإجلاً فلما بلغوه جاءهم العذاب. والموعد الوقت الذي وعدوا فيه بالاهلاك.
وقوله { وإذ قال موسى لفتاه } معناه واذكر اذ قال موسى لفتاه لما في قصته من العبرة بأنه قصد السفر فوفق الله (عز وجل) فى رجوعه أكثر مما قصد له ممن أحب موسى أن يتعلم منه ويستفيد من حكمته التي وهبها الله له. وقيل إن فتى موسى (ع) كان يوشع بن نون. وقيل ابن يوشع، وسمي فتاه لملازمته إياه { لا أبرح } أي لا ازال كما قال الشاعر:

وابراح ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقاً مجيداً

أي لا ازال، ولا يجوز أن يكون بمعنى لا أزول، لان التقدير، لا أزال أمشي حتى أبلغ. ومعنى (لا يزال يفعل كذا) أي هو دائب فيه. وقيل انه كان وعد بلقاء الخضر عند مجمع البحرين.
وقوله { أو أمضي حقباً } معناه لا أبرح حتى ابلغ مجمع البحرين الى أن امضي حقباً. قال ابن عباس: والحقب الدهر. وقيل هو سنة بلغة قيس. وقيل سبعون سنة - ذكره مجاهد - وقال عبد الله بن عمر: هو ثمانون سنة. وقال قتادة: الحقب الزمان. وقال قتادة: مجمع البحرين: بحر فارس والروم.
وقوله { فلما بلغا مجمع بينهما } يعني بين البحرين { نسيا حوتهما } وانما نسيه يوشع بن نون وأضافه اليهما، كما يقال نسي القوم زادهم، وانما نسيه بعضهم. وقيل نسي يوشع أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء.
وقوله { فاتخذ سبيله } يعني الحوت { في البحر سرباً } قال ابن عباس وابن زيد ومجاهد: أحيا الله الحوت، فاتخذ طريقه في البحر مسلكَاً. وقيل ان الحوت كانت سمكة مملحة فطفرت من موضعها الى البحر ذاهبة. وقال الفراء: كان مالحاً، فلما حيي بالماء الذي أصابه من العين، وقع في البحر. ووجد مذهبه، فكان كالسرب. وروي عن أبي بن كعب أن مجمع بينهما أفريقية، وأراد الله أن يعلم موسى أنه وإن آتاه التوراة، فانه قد آتى غيره من العلم ما ليس عنده، فوعده بلقاء الخضر. وقوله { مجمع بينهما } يعني موسى وفتاه بلغا مجمع البحرين. وقال قتادة قيل لموسى آية لقياك إياه أن تنسى بعض متاعك، وكان موسى وفتاه تزودا حوتاً مملوحاً حتى إذا كانا حيث شاء الله، رد الله الى الحوت روحه فسرب فى البحر، فذالك قوله { فاتخذ سبيله في البحر سرباً } أي مذهباً يقال سرب يسرب سرباً إذا مضى لوجهه فى سفر غير بعيد ولا شاق وهي السربة فاذا كانت شاقة، فهي (السبأ) ة بالهمزة. وروي ان الله تعالى بعث ماء من عين الجنة، فاصاب ذلك الماء تلك السمكة فحييت وطفرت الى البحر، ومضت. وروي عن ابن عباس أنه قال: لما وفد موسى الى طور سيناء، قال رب أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبغي علم الناس الى علمه، لعله يجد كلمة تهديه الى هدى أو ترده عن ردى. قال رب من هو؟ قال الخضر تلقاه عند الصخرة التي عندها العين التي تنبع من الجنة. وقال الحسن: كان موسى سأل ربه هل أحد أعلم مني من الآدميين فأوحى الله اليه: نعم عبدي الخضر (ع)، فقال موسى (ع): كيف لي بلقائه؟ فاوحى الله اليه أن يحمل حوتاً في متاعه ويمضي على وجهه حتى يبلغ مجمع البحرين، بحر فارس والروم، وهما المحيطان بهذا الخلق. وجعل العلم على لقائه أن يفقد حوته، فاذا فقدت الحوت فاطلب حاجتك عند ذلك فانك تلقى الخضر عند ذلك.
وقال الحسن كان الحوت طرياً. وقال ابن عباس: كان مملوحاً. قال الحسن: فمضى على وجهه هو وفتاه حتى { بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً } يعنى الحوت. ثم { قال لفتاه آتنا غداءنا } ففتش متاعه ففقد الحوت، قال { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة } وكانت الصخرة عند مجمع البحرين { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره فاتخذ سبيله في البحر } يعني الحوت وانقطع الكلام. فقال موسى (ع) عند ذلك { عجباً } كيف كان ذلك. وقال لفتاه { ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً } وقال الزجاج: يحتمل أن يكون ذلك من قول صاحبه فانه أخبر بأن اتخاذ الحوت طريقاً في البحر كان عجباً.