التفاسير

< >
عرض

قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
٢١
فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً
٢٢
فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
٢٣
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
٢٤
وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
٢٥
-مريم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة وحفص عن عاصم { نسياً } بفتح النون. الباقون بكسرها، وهما لغتان. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص { من تحتها } على أن (من) حرف جر. الباقون { من تحتها } يعني الذي تحتها قال ابو عليّ النحوي: ليس المراد بقوله { من تحتها } الجهة السفلى، وانما المراد من دونها، بدلالة قوله { قد جعل ربك تحتك سرياً } ولم يكن النهر محاذياً لهذه الجهة، وإنما المعنى جعل دونك.
وقرأ "تساقط" - بالتاء وضمها، وكسر القاف مخففه السين - حفص عن عاصم. وقرأ حمزة "تساقط" بفتح التاء وتخفيف السين. الباقون، وهم ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر والكسائي وابو بكر عن عاصم، بفتح التاء وتشديد السين وفتح القاف. وقرأ يعقوب والعليمي ونصير - بياء مفتوحة، وتشديد السين وفتح القاف - وكلهم جزم الطاء.
حكى الله تعالى ما قال لها جبرائيل حين سمع تعجبها من هذه البشارة { قال كذلك } يعني الله تعالى قال ذلك { قال ربك هوعلي هين } أي سهل متأت لا يشق علي ذلك { ولنجعله آية للناس } أي نجعل خلقه من غير ذكر آية باهرة، وعلامة ظاهرة للناس { ورحمة منا } أي ونجعله نعمة من عندنا { وكان أمراً مقضياً } أي وكان خلق عيسى من غير ذكر أمراً قضاه الله وقدره وحتم كونه أي هو المحكوم بأنه يكون، وما قضاه الله بأنه كائن، فلا بد من كونه.
وقوله { فحملته } يعني حملت عيسى فى بطنها، والحمل رفع الشيء من كانه، وقد يكون رفع الانسان في مجلسه، فيخرج عن حد الحمل. ويقال له (حمل) بكسر الحاء لما يكون على الظهر، وبالفتح لما يكون في البطن { فانتبذت به مكاناً قصياً } أي انفردت به مكاناً بعيداً، ومعناه قاصياً، وهو خلاف الداني. قال الزاجز:

لتقعدن مقعد القصي مني كذي القاذورة المقلي

يقال قصا المكان يقصوه قصواً إذا تباعد، واقصيت الشيء إذا أبعدته، واخرته اقصاء. وقوله { فأجاءها المخاض } أي جاء بها المخاض وهو مما يعدى تارة بالباء وأخرى بالالف. مثل ذهبت به وأذهبته وآتيتك بعمرو وآتيتك عمراً. وخرجت به وأخرجته قال زهير:

وجار سار معتمداً اليكم أجاءته المخافة والرجاء

أي جاءت به. قال الكسائي تميم تقول: ما أجاءك الى هذا وما أشاء بك اليه. أي صيرك تشاء. ومن أمثالهم (شر أجاءك الى مخة عرقوب) وتميم تقول: شر أشاءك الى مخة عرقوب. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: معنى { فأجاءها } الجأها. وقال السدي: إنها قالت في حال الطلق { يا ليتني مت قبل هذا } استحياء من الناس { وكنت نسياً منسياً } فالنسي الشيء المتروك حتى ينسى - بالفتح والكسر - مثل الوتر والوتر. وقيل النسي - بالفتح - المصدر، يقال: نسيت الشيء نسياً ونسياناً - وبالكسر - الاسم إذا كان لقي لا يؤبه به، وقيل النسي خرقة الحيض التي تلقيها المرأة، قال الشاعر:

كأن لها في الارض نسياً تقصه إذا ما غدت وإن تكالمك تبلت

أي نسياً تركته، ومعنى (تبلت) أي تقطع كلامها رويداً رويداً وتقف وتصدق.
وقوله { فناداها من تحتها } قال ابن عباس والسدي والضحاك وقتادة: المنادي كان جبرائيل (ع). وقال مجاهد والحسن ووهب بن منية، وسعيد بن جبير وابن زيد والجبائي: كان المنادي لها عيسى (ع).
وقوله { ألا تحزني } أي لا تغتمي { قد جعل ربك تحتك سرياً } قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: السري هو النهر الصغير. وقال قوم: هو النهر بالسريانية. وقال آخرون: هو بالنبطية. وقال ابراهيم والضحاك وقتادة: هو النهر الصغير بالعربية، مثل قول ابن عباس، وقال البراء بن عازب: هو الجدول. وقال الحسن وابن زيد: السري عيسى (ع). وقيل للنهر (سري) لأنه يسري بجريانه كما قيل جدول لشدة جريه. قال لبيد:

فتوسطا عرض السريّ فصدعا مسجورة متجاوز أقدامها

وقال آخر:

سلم ترى الدالي منه ازورا إذا يعج في السريّ هرهرا

وقوله { وهزي إليك بجذغ النخلة } معناه هزى النخلة اليك، ودخلت الباء تأكيداً، كما قال تعالى { { تنبت بالدهن } }. قال الشاعر:

نضرب بالبيض ونرجوا بالفرج

أى نرجو الفرج، وقال آخر:

بواد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمرخ والشبهان

وفى رواية ينبت الشث حوله. وقوله { تساقط عليك } من شدد، أراد تتساقط فادغم احد التاءين فى السين، ومن خفف حذف احد التاءين. ومن قرأ - بالياء - أسند الفعل الى الجذع. ومن قرأ - بالتاء - اسنده الى النخلة. ومن قرأ تساقط أراد من المساقطة. وقرأ ابو حيويه { تسقط عليك }. وروي عنه (يسقط) وهو شاذ والمعاني متقاربة. وقال ابو علي: من قرأ { تساقط } عدى (فاعل) كما عدى (يتفاعل) وهو مطاوع (فاعل) قال الشاعر:

تطالعنا خيالات لسلمى كما يتطالع الدين الغريم

وانشد ابو عبيدة:

تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم أعجل

قال فى موضع (اخطأت) كقوله { { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } ومعنى الآية يتواقع عليك رطباً جنياً. والجني المجني (فعيل) بمنى (مفعول) وهو المأخوذ من الثمرة الطرية، اجتناه اجتنا. إذا اقتطعه، قال ابن اخت جذيمة:

هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده الى فيه

وفي نصب { رطباً } قولان:
احدهما - قال المبرد: هو مفعول به، وتقديره هزي بجذع النخلة رطباً تساقط عليك.
وقال غيره: هو نصب على التمييز والعامل فيه تساقط.
وقال ابو علي: يجوز أن يكون نصباً على الحال، وتقديره تساقط عليك ثمر النخلة رطبا، فحذف المضاف الذي هو الثمرة، ونصب رطباً على الحال.
وقيل: لم يكن للنخلة رأس وكان في الشتاء، فجعله الله تعالى آية، وانما تمنت الموت قبل تلك الحال التي قد علمت انها من قضاء الله لكراهتها أن يعصى الله بسببها إذا كان الناس يتسرعون الى القول فيها بما يسخط الله. وقال قوم: انها قالت ذلك بطبع البشرية خوف الفضيحة. وقال قوم: المعنى فى ذلك اني لو خيرت قبل ذلك بين الفضيحة بالحمل والموت لاخترت الموت.
واختلفوا فى مدة حمل عيسى، فقال قوم: كان حمله ساعة ووضعت فى الحال. وقال آخرون: حملت به ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية أشهر غيره (ع)، فكان ذلك آية له. وفي بعض الروايات أنه ولد لستة أشهر. وقوله { فأجاءها المخاض } يدل على طول مكث الحمل، فاما مقداره فلا دليل يقطع به.