التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
التقدير واذكروا إذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً. فان قيل: هل كان الحرم آمنا قبل دعوة ابراهيم (ع)؟ قيل فيه خلاف:
قال مجاهد عن ابن عباس، وابو شريح الخزاعي: كان آمنا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) حين فتح مكة هذه حرم حرمها الله يوم خلق السماوات والارض، وهو الظاهر في رواياتنا.
وقال قوم: كانت قبل دعوة ابراهيم كسائر البلاد، وانما صارت حرماً بعد دعوته (ع) كما صارت المدينة. لما روي ان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
" ان ابراهيم (ع) حرم مكة، واني حرمت المدينة" .
وقال بعضهم: كانت حراماً والدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة والاول يمنع الله إياها من الاضطلام، والانتقام، كما لحق غيرها من البلاد، وبما جعل في النفوس من تعظيمها، والهيبة لها. والوجه الثاني ـ بالامر على ألسنة الرسل. فأجابه الله إلى ما سأل. وانما سأل أن يجعلها آمنا من الجدب، والقحط لانه أسكن أهله بواد غير ذي زرع، ولا ضرع. ولم يسأله أمنه من انتقال، وخسف، لانه كان آمنا من ذلك. وقال قوم: سأله الامرين على ان يديمهما له. وان كان احدهما مستأنفا، والآخر كان قبل.
ومعنى قوله: { بلداً آمنا } أي يأمنون فيه. كما يقال: ليل نائم أي النوم فيه.
اللغة:
والبلد والمصر والمدينة نظائر. ورجل بليد اذا كان بعيد الفطنة. وكذلك يقال للدابة التي تقصر عن نظائرها. وأصل البلادة التأثير. ومن ذلك قولهم لكركرة البعير: بلدة لانه اذا برك تأثرت. والبلد: الاثر في الجلد، وغيره. وجمعه أبلاد. وانما سميت البلاد من قولك. بلد او بلدة، لانها مواضع مواطن الناس وتأثيرهم. والبلد: المقبرة ويقال: هو نفس القبر قال حفاف:

كل امرىء نازل أحبته ومسلم وجهه إلى البلد

و { لا أقسم بهذا البلد } يعني بمكة والتبلد نقيض التجلد. وهو استكانة وخضوع. وتبلد الرجل: اذا نكس وضعف في العمر، وغيره حتى في السجود. والبلدة: منزل من منازل القمر. وأصل الباب البلد، وهو الاثر في الجلد، وغيره.
المعنى:
وقوله { فأمتعه قليلا } يعني بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته. وقيل فأمتعه بالبقاء في الدنيا. قال الحسن: فامتعه بالامن والرزق إلى خروج محمد (صلى الله عليه وسلم) فيقتله إن أقام على كفره. أو يجليه عنها. وقد قرىء في الشواذ فامتعه على وجه الدعاء بصورة الامر، ثم اضطره بمثل ذلك على ان يكون ذلك سؤالا من ابراهيم ان يمتع الكافر قليلا ثم يضطره بعد ذلك إلى عذاب النار. والاول اجود لانه قراءة الجماعة، هذا مروي عن ابن عباس.
القراءة:
والراء مفتوحة في هذه القراءة وكان يجب ان تكسر كما يقال مد ومد ولم يقرأ به أحد وقرأ: ابن عباس وحده { فأمتعه قليلا } من المتعة على الخبر الباقون بالتشديد بدلالة قوله: { متعناهم إلى حين }.
اللغة:
والفرق بين متعت وامتعت ان التشديد يدل على تكثير الفعل، وليس كذلك التخفيف. وفعلت وافعلت يجيء على خمسة اقسام:
احدها ـ ان يكونا بمعنى واحد كقولهم: سميت واسميت ويجيء على التكثير والتقليل ويجيء على النقص كقولك: فرطت: قصرت. وافرطت: جاوزت.
والرابع ـ توليت الفعل وتركته حتى يقع: كقوله { يخربون بيوتهم } اي يهدمون. فاما اخربت فمعناه تركت المنزل وهربت منه حتى خرب.
والخامس ـ ان ينفرد احدهما عن الآخر. كقولك: كلمت لا يقال فيه افعلت واجسلت ولا يقال: منه فعلت.
المعنى:
ومعنى { ثم أضطره } ادفعه إلى عذاب النار وأسوقه اليها. والاضطرار هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه، اذا كان من جنس مقدوره، ولهذا لا يقال فلان مضطر الى كونه ـ وان كان لا يمكنه دفعه عن نفسه ـ لما لم يكن الكون من جنس مقدوره. ويقال هو مضطر إلى حركة الفالج وحركة العروق، لما كانت الحركة من جنس مقدورة.
وقوله: { وبئس المصير } هو الحال التي يؤدي اليها اولها.
اللغة:
وصار وحال وآل نظائر. يقال صار يصير مصيرا، قياسه رجع يرجع مرجعا وصيرة تصييرا قال صاحب العين: صير، كل امر مصيرة والصيرورة مصدر صار يصير صيرورة. وقال بعضهم: صيور الامر اخره. قال الكميت يمدح هشام ابن عبد الملك:

ملك لم يصنع الله منه بدء أمر ولم يضع صيورا

وصارة الجبل: رأسه. والصير: الشق. وفي الحديث "من نظر في صير باب ففقئت عينه فهي هدر" . وصير البقر: موضع يتخذه للحظيرة. واذا كان للغنم فهو زريبة واصل الباب: المصير، وهو المآل.
المعنى:
ومعنى الآية سأل سؤال عارف بالله مطيع له، وهو ان يرزق من الثمرات من آمن بالله، واليوم الاخر، فاجاب الله ذلك، ثم أعلمه انه يمنع من كفر به، لاجل الدنيا، ولا يمنعه من ذلك كما يتفضل به على المؤمن، ثم يضطره في الآخرة، إلى عذاب النار، وبئس المصير. وهي كما قال: نعوذ بالله منها.
وقوله في الآية { قليلا } يحتمل ان يكون صفة للمصدر كما قال متاعا حسنا فوصف به المصدر، وليس لاحد ان يقول كيف يوصف به المصدر، وهو فعل يدل على التكثير، وكيف يستقيم وصف الكثير بالقليل في قوله { فأمتعه } وهلا كانت قراءة ابن عامر ان حج على هذا وذلك ايضاً إنما وصفه بانه قليل من كان آخره إلى نفاد، ونقص، وفناء. كما قال { متاع الدنيا قليل } ويجوز ايضاً ان يكون صفة للزمان. كما قال: { عما قليل ليصبحن نادمين } يعني بعد زمان قليل وعن ابي جعفر "ع" في قوله: { وارزقهم من الثمرات } اي تحمل اليهم من الآفاق.