التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ نافع وابن عامر، وابن كثير، والكسائي - بضم نون - { فمن اضطر } الباقون بكسرها.
اللغة والاعراب:
لفظة إنما تفيد إثبات الشيء، ونفي ما سواه كقول الشاعر:

وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

ومعناه لا يدافع غيري، وغير من هو مثلي، وهو قول الزجاج، والفراء، والرماني، والطبري، وأكثر أهل التأويل. وإنما كانت لاثبات الشيء، ونفي ما سواه، من قبل أنها لما كانت (إن) للتأكيد، ثم ضم إليها (ما) للتأكيد ايضاً، أكدت (إن) من جهة التحقيق للشيء، وأكدت (ما) من جهة نفي ما عداه، فكأنك اذا قلت: إني بشر، فالمعنى أنا بشر على الحقيقة، فاذا قلت: إنما أنا بشر، فقد ضممت إلى هذا القول ما أنا إلا بشر.
وتقدير قوله تعالى: { إنما حرّم عليكم الميتة } ما حرم عليكم إلا الميتة. ولو كانت (ما) بمعنى الذي، لكتبت مفصولة، ومثله قوله تعالى:
{ إنما الله إله واحد } أي لا إله إلا واحد، ومثله { إنما أنت منذر } أي لا نذير إلا أنت ومثله إنما ضربت أخاك أي ما ضربت إلا أخاك.
فاذا ثبت ذلك، فلا يجوز في الميتة إلا النصب، لأن (ما) كافة ومعناه تحريم الميتة، وتحليل المذكى، ولو كانت ما بمعنى الذي، لكان يجوز في الميتة الرفع.
والفرق بين الميت، والميتة قيل فيه قولان:
أحدهما - قال أبو عمرو: ما كان قد مات، فهو بالتخفيف مثل
{ يخرج الحي من الميت } }. وما لم يمت بالتثقيل كقوله تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون } }. ووجه ذلك أن التثقيل لما كان هو الأصل كان أقوى على التصريف في معنى الحاضر والمستقبل.
و [الثاني] قال قوم: المعنى واحد، وانما التخفيف لثقل الياء على الكسرة، قال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

فجمع بين اللغتين:
المعنى:
قوله: { وما أهل به لغير الله } قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الربيع، وابن زيد، وغيرهما من أهل التأويل: معناه ذكر غير اسم الله عليه.
والثاني - قال قتادة، ومجاهد: ما ذبح لغير الله.
اللغة:
والاهلال على الذبح: هو رفع الصوت بالتسمية، وكان المشركون يسمون الأوثان، والمسلمون يسمون الله. ويقال: انهل المطر انهلالا وهو شدة انصبابه، وتهلل السحاب ببرقه أي تلألأ، وتهلل وجهه اذا تلألأ، وتهلل الرجل فرحاً. والهلال غرة القمر، لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير، والمحرم يتهلل بالأحرام، وهو أن يرفع صوته بالتلبية، ويهلل الرجل: يكبر اذا نظر الى الهلال. وهلل البعير تهليلا اذا تقوس كتقوس الهلال، وسمي به الذكر، لأن الهلال ذكر. وثوب هل أي رقيق مشبه بالهلال في رقته. والتهليل: الفزع. واستهل الصبي اذا بكي حين يولد. والهلال: الحية الذكر، لأنه يتقوس، وسمي به الذكر، لأن الهلال ذكر.
{ فمن اضطر } من كسر النون فلالتقاء الساكنين، ومن ضمها أتبع الضمة الضمة في الطاء. وقرأ أبو جعفر بكسر الطاء.
والاضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه، وذلك كالجوع الذي يحدث للانسان، ولا يمكنه الامتناع منه. والفرق بين الاضطرار، والالجاء أن الالجاء تتوفر معه الدواعي الى الفعل من جهة الضر أو النفع، وليس كذلك الاضطرار.
وأكثر المفسرين على أن المراد في الآية المجاعة. وقال مجاهد: ضرورة إكراه. والأولى أن يكون محمولا على العموم إلا ما خصه الدليل.
{ ولحم الخنزير } قال صاحب العين يقال: رجل لحم اذا كان أكول اللحم. وبيت لحم: يكثر فيه اللحم. وألحمت القوم اذا قتلهم وصاروا لحماً. والملحمة: الحرب ذات القتل الشديد. واستلحم الطريق اذا اتسع. واللحمة: قرابة النسب. واللحمة ما يسد به بين السديين من الثوب. واللحام: ما يلحم به صدع ذهب أو فضة أو حديد حتى يلتحما، ويلتئما. وكل شيء كان متبايناً ثم تلاءم، فقد التحم. وشجة متلاحمة إذا بلغة اللحم. وأصل الباب اللزوم، فمنه اللحم للزومه بعضه بعضاً.
المعنى:
وقوله: { غير باغ ولا عاد } قيل في معناه ثلاثة أقوال أولها - { غير باغ } اللذة { ولا عاد } سد الجوعة وهو قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد. والثاني - ما حكاه الزجاج { غير باغ } في الافراط { ولا عاد } فى التقصير. والثالث - "غير باغ" على إمام المسلمين "ولا عاد" بالمعصية طريق المحقين، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبدالله (ع) قال الرماني: وهذا القول لا يسوغ، لأنه تعالى لم يبح لأحد قتل نفسه بل حظر عليه ذلك، والتعريض للقتل قتل في حكم الدين، ولأن الرخصة إنما كانت لأجل المجاعة المتلفة، لا لأجل الخروج في طاعة، وفعل إباحة. وهذا الذي ذكره غير صحيح لأن من بغى على إمام عادل فأدى ذلك الى تلفه، فهو المعرّض نفسه للقتل، كما لو قتل في المعركة، فانه المهلك لها، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرّم الله، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين، وما قاله من أن الرخصة لمكان المجاعة، لا يسلم إطلاقه، بل يقال: إنما ذلك للمجاعة التي لم يكن هو المعرض نفسه لها، فأما إذا عرّض نفسه لها، فلا يجوز له استباحة المحرم، كما قلنا في قتل نفس الغير، ليدفع عن نفسه القتل. وأصل البغي: الطلب من قولهم: بغى الرجل حاجته يبغيها بغاً قال الشاعر:

لايمنعنّك من بغا الخير تعقاد التمائم
إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم

والبغاء: طلب الزنا. وإنما اقتضى ذكر المغفرة ها هنا أحد أمرين:
أحدهما - النهي عما كانوا عليه من تحريم مالم يحرمه الله من السائبة، والوصيلة، والحام، فوعد الله بالمغفرة عند التوبة، والانابة الى طاعة الله فيما أباحه أو حظره.
الثاني - إذا كان يغفر المعصية، فهو لا يوآخذ بها، جعل فيه الرخصة، ولا يجوز أن يقع في موضع غير (إلا) لأنها بمعنى النفي ها هنا، ولذلك عطف عليها بـ (لا) لأنها في موضع (لا). فأما (إلا) فمعناها في الأصل الاختصاص لبعض من كل، وليس ها هنا كل يصلح أن يحض منه. { غير باغ } منصوب على الحال وتقديره لا باغياً، ولا عادياً. والقدر المباح من الميتة عند الضرورة ما يمسك الرمق فقط - عندنا - وفيه خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء.