التفاسير

< >
عرض

وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
أكثر المفسرين على أن قوله: { ولكم في القصاص حياة } المراد به القصاص في القتل. وإنما كان فيه حياة من وجهين:
أحدهما - ما عليه أكثر المفسرين كمجاهد، وقتادة، والربيع، وابن زيد: أنه إذا هم الانسان بالقتل فذكر القصاص، ارتدع، فكان ذلك سبباً للحياة.
الثاني - قال السدي: من جهة أنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره. خلاف فعل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل، والمعنيان جميعاً حسنان. وقال أبو الجوزاء: معناه أن القران حياة بالقصاص، أراد به القران. وهذا ضعيف، لأنه تأويل خلاف الاجماع، ولأنه لا يليق بما تقدم، ولا يشاكله، وهو قوله: { كتب عليكم القصاص في القتلى }، فكأنه قال بعده ولكم فيه حياة. ونظير هذه الآية قولهم: القتل أنفى للقتل. وبينهما من التفاوت في الفصاحة، والبلاغة ما بين السماء والأرض وقيل: الفرق بينهما من أربعة أوجه:
أحدها - أنه أكثر فائدة. وثانيها - أنه أوجز في العبارة. وثالثها - أنه أبعد عن الكلمة بتكرير الجملة. ورابعها - أنه أحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة.
أما كثرة الفائدة، ففيه ما في قولهم: (القتل أنفى للقتل) وزيادة معان حسنة: منها إبانة العدل، لذكره القصاص. ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه، لذكر الحياة. ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به.
وأما الايجاز في العبارة، فان الذي هو نظير (القتل أنفى للقتل) قوله تعالى: { في القصاص حياة } وهو عشرة أحرف. والأول أربعة عشر حرفاً. وأما بعد التكلف، فهو أن في قولهم: (القتل أنفى للقتل) تكرير غيره أبلغ منه. ومتى كان التكرير كذلك، فهو مقصر في باب البلاغة. وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة، فهو مدرك بالحس، وموجود باللفظ، فان الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام الى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام. وكذلك الخروج من الصاد الى الحاء أعدل من الخروج من الألف الى اللام. فباجماع هذه الأمور التي ذكرناها كان أبلغ منه وأحسن. وإن كان الأول حسناً بليغاً وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء، فقال:

أبلغ أبا مالك عني مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام

وهذا وإن كان حسناً، فبينه وبين لفظ القرآن: ما بين أعلى الطبقة وأدناها. وأول ما فيه أنه استدعاء الى العتاب. وذلك استدعاء الى العدل. وفي هذا إبهام. وفي الآية بيان عجيب.
اللغة:
وقوله: { يا أولى الألباب } فالألباب: العقول وهو مأخوذ من النخلة على وجه التشبيه به. واللب: العقل. لب الرجل يلبّ: إذا صار لبيباً. ولبّ بالمكان، وألبّ به لباً، وإلباباً: اذا أفام به. ولُب كل شيء خالصه. قال صاحب العين: اللبّ: البال. تقول: الأمر منه في لبب رخيّ أي في بال رخي. واللبب من الرمل: شبيه حقف بين معظم الرمل، وجلد الأرض. وتلبب بالثياب إذا جمعها. ويشبه به المتسلح بالسلاح. واللبة من الصدر: موضع القلادة. والتلبيب: مجمع ما في موضع اللبب من ثياب الرجل. تقول: أخذ فلان بتلابيب فلان. وأصل الباب لب الشيء: داخله: الذي تركبه القشرة، وتلزمه. ومنه لبيك وسعديك أي ملازمة لأمرك وإسعاداً لك.
المعنى: وقوله تعالى: { لعلكم تتقون } قد بينا فيما مضى أن لعل معناه لكي وقيل في معناه ها هنا قولان:
[الأول] لكي تتقوا القتل بالخوف من القصاص. ذكره ابن زيد.
الثاني - قال الجبائي، وغيره: لتتقوا ربكم باجتناب معاصيه. وهذا أعم فائدة، لأنه يدخل فيه اتقاء القتل، وغيره.
وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة: لأن فيها دلالة على أنه أنعم على جميع العقلاء، ليتقوا ربهم، وفي ذلك دلالة على أنه أراد منهم التقوى وإن عصوا، وإنما خص الله تعالى بالخطاب أولي الالباب، لانهم المكلفون المأمورون، ومن ليس بعاقل لا يصح تكليفه، ولا يحسن، فلذلك خصهم بالذكر.