التفاسير

< >
عرض

فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم { موص } بالتخفيف. الباقون بالتشديد. وهما لغتان: وصى، وأوصى بمعنى واحد.
المعنى:
فان قيل: كيف قال { فمن خاف من موص } لما قد وقع، والخوف إنما يكون لما لم يقع؟ قيل فيه قولان:
أحدهما - إنه خاف أن يكون قد زلّ في وصيته، فالخوف للمستقبل، وذلك الخوف هو أن يظهر ما يدل على أنه قد زلّ، لأنه من جهة غالب الظن.
والثاني - لما اشتمل على الواقع, وما لم يقع جاز فيه { خاف } ذلك فيأمره بما فيه الصلاح، وما وقع رده الى العدل بعد موته. والجنف: الجور، وهو الميل عن الحق. وقال الحسن: هو أن يوصي من غير القرابة، قال: فمن أوصى لغير قرابته رد الى أن يجعل للقرابة الثلثان، ولمن أوصى له الثلث. وهذا باطل عندنا، لأن الوصية لا يجوز صرفها عن من وصي له. وإنما قال الحسن ذلك لقوله إن الوصية للقرابة واجبة. وعندنا إن الامر بخلافه على ما بيناه.
اللغة:
وقال صاحب العين: الجنف: الميل في الكلام والأمور كلها. تقول: جنف علينا فلان، وأجنف في حكمه، وهومثل الحيف إلا ان الحيف من الحاكم خاصه، والجنف عام، ومنه قوله تعالى:
{ غير متجانف } أي متمايل: متعمد. ورجل أجنف: في أحد شقيه ميل على الآخر. وقال ابن دريد: جنف يجنف جنفاً إذا صدّ عن الحق وأصل الباب: الميل عن الاستواء. قال الشاعر في الجنف:

هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور

المعنى:
واذا جنف الموصي في وصيته، فللوصي أن يردها إلى العدل، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع). وبه قال الحسن، وقتادة، وطاووس. وقال قوم، واختاره الطبري: ان قوله { فمن خاف من موص } في حال مرضه الذي يريد أن يوصي فيه، ويعطي بعضاً، ويضر ببعض، فلا إثم أن يشير عليه بالحق، ويرده الى الصواب ويسرع في الاصلاح بين الموصي، والورثة، والموصى له حتى يكون الكل راضين، ولا يحصل جنف, ولا ظلم, ويكون قوله { فأصلح بينهم } يريد فيما يخاف من حدوث الخلاف فيه - فيما بعد - ويكون قوله { فمن خاف } على ظاهره، فيكون مترقباً غير واقع. وهذا قريب ايضاً، غير أن الأول أصوب، لأن عليه أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وإنما قيل للمتوسط بالاصلاح ليس عليه إثم ولم يقل فله الأجر على الاصلاح، لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسوآله إياه، فاحتاج الى أن يبين الله لنا أنه لا إثم عليه في ذلك اذا قصد الاصلاح. والذي اقتضى قوله { غفور رحيم } انه اذا كان يغفر المعصية، فانه لا يجوز أن يوآخذ بما ليس بمعصية مما بين أنه لا إثم عليه.
والضمير في قوله { بينهم } عائد على معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الوصي، والاصلاح، لأنه قد دلّ على الموصى لهم ومن ينازعهم وأنشد الفراء - في مثل { فأصلح بينهم }:

أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
ويصمّ عمّا كان بينهما سمعي وما بي غيره وقر

أراد بينها وبين زوجها، وإنما ذكرها وحدها، وأنشد أيضاً:

وما أدري إدا يممت وجهاً أريد الخير أيهما يليني
هل الخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي لا يأتليني

فكنى في البيت الأول عن الشر، وإنما ذكر الخير وحده. وقيل: بل يعود على مذكور، هم الوالدان والأقربون.
والضمير في قوله { فلا إثم عليه } عائد على الوصي - في قول الحسن - ويجوز أن يعود على المصلح المذكور في (من).
وقوله تعالى: { جنفاً } وإنما يريد بالجنف: الميل عن الحق عن جهة الخطأ، لأنه لا يدري أنه لا يجوز، والاثم: أن يتعمد ذلك، وهو معنى قول ابن عباس، والحسن، والضحاك، والسدي. وروي ذلك عن أبي جعفر. والجنف في الوصية: أن يوصي الرجل لابن ابنته، وله أولاد. أو يوصي لزوج بنته، وله أولاد، فلا يجوز رده على وجه عندنا. وخالف فيه ابن طاووس، وكذلك إن وصى للبعيد دون القريب لا تردّ وصيته. وخالف فيه الحسن.