التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٢٤
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
قيل في معنى قوله: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } ثلاثة أقوال:
أحدها - أن العرضة: علة، كأنه قال لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البرّ، والتقوى: من حيث تتعمدوا، لتعتلوا بها، وتقولوا: قد حلفنا بالله، ولم تحلفوا به، وهذا قول الحسن، وطاووس، وقتادة، وأصله - في هذا الوجه - الاعتراض به بينكم وبين البرّ والتقوى، للامتناع منهما، لأنه قد يكون المعترض بين الشيئين مانعاً من وصول أحدهما الى الآخرة، فالعلة مانعة كهذا المعترض. وقيل: العرضة: المعترض، قال الشاعر:

لا تجعليني عرضة اللوائم

الثاني - { عرضة }: حجة، كأنه قال لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع { أن تبروا وتتقوا } بأن تكونوا قد سلف منكم يمين ثم يظهر أن غيرها خير منها، فافعلوا الذي هو خير، ولا تحتجوا بما سلف من اليمين، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والربيع، والأصل في هذا القول والأول واحد، لأنه منع من جهة الاعتراض بعلة أو حجة. وقال بعضهم: إن أصل عرضة: قوة، فكأنه قيل: ولا تجعلوا الحلف بالله قوة لأيمانكم في ألاّ تبرّوا وأنشد لكعب بن زهير:

من كل نضّاحة الذّفرى إذا عرقت عُرضتها طامس الاعلام مجهول

وعلى هذا يكون الأصل العرض، لأن بالقوة يتصرف في العرض والطول، فالقوة: عرضة لذلك.
الثالث - بمعنى: ولا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة في كل حق وباطل، لأن تبرّوا في الحلف بها، واتقوا المآثم فيها، وهو المروي عن عائشة، لأنها قالت: لا تحلفوا به وإن بررتم، وبه قال الجبائي، وهو المروي عن أئمتنا (ع) وأصله على هذا معترض بالبذل: لا تبذل يمينك في كل حق وباطل. فأما في الأصل، فمعترض بالمنع أي لا يعترض بها مانعاً من البرّ، والتقوى، فتقدير الأول: لا تجعل الله مانعاً من البرّ والتقوى باعتراضك به حالفاً، وتقدير الثاني - لا تجعل الله مما تحلف به دائماً باعتراضك بالحلف في كل حق وباطل، لأن تكون من البررة، والأتقياء.
اللغة:
واليمين، والقسم، والحلف واحد. واليمنية: ضرب من برود اليمن. وأخذ يمنة، ويسرة. ويُمن ييمن يميناً، فهو ميمون. ويمن، فهو ميمن: إذا أتى باليمن، والبركة. وتيمن به تيمناً، وتيامن تيامناً. واليمين خلاف الشمال، وأصل الباب اليمن، والبركة.
المعنى:
وقوله: { أن تبروا } قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - { أن تبروا }: لأن تبروا على معنى الأثبات.
الثاني - أن يكون على معنى لدفع أن تبروا، أو لترك أن تبروا - في قول أبي العباس.
الثالث - على تقدير: ألاّ تبروا، وحذفت (لا) لأنه في معنى القسم كما قال امرؤ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي لا أبرح، هذا قول أبي عبيد، وأنكر أبو العباس هذا، لأنه لما كان معه (أن)، بطل أن يكون جواباً للقسم، وإنما يجوز (والله أقم في القسم بمعنى لا أقوم، لأنه لو كان إثباتاً، لقال لأقومن، باللام والنون. والمعنى في قول أبي العباس، وأبي عبيد واحد، والتقدير مختلف، فحمله أبو العباس على ما له نظير من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وأنكر قياسه على ما يشبهه.
الاعراب:
وفي موضع أن تبروا ثلاثة أقوال:
قال الخليل، والكسائي: موضعه الخفض بحذف اللام مع أن خاصة.
الثاني - قال سيبويه وأكثر النحويين: إن موضعه النصب، لأنه لما حذف المضاف وصل الفعل وهو القياس.
الثالث - قال قوم: موضعه الرفع على { أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } أولى، وحذف، لأنه معلوم المعنى، أجاز ذلك الزجاج وإنما حذف اللام جاز مع (أن)، ولم يجز مع المصدر، لأن (أن) يصلح معها الماضي، والمستقبل، نحو قولك جئتك أن ضربت زيداً، وجئتك أن تضرب زيداً، والمصدر ليس كذلك، كقولك: جئتك لضرب زيد، فمعنى ذلك: أنه لما وصل بالفعل، احتمل الحذف كما يحتمل (الذي) وإذا وصل بالفعل من حذف ضمير المفعول، ما لا يحتمله الألف واللام إذا وصل بالاسم، نحو الذي ضربت زيد: يريد ضربته. فأما الضاربه أنا زيد، فلا يحسن إلا بالهاء، وذلك لأن الفعل أثقل، فهو بالحذف أولى. ويجوز أن يكون لما صلح للأمرين كثير في الاستعمال، فكان بالحذف أولى مما قل منه. وقال الزجاج إنما جاز حذف اللام مع (أن)، ولم يجز مع المصدر، لأن (أن) إذا وصلت، دل بما بعدها على الاستقبال، والمعنى تقول: جئتك أن ضربت زيداً، وجئتك أن تضرب زيداً، فلذلك جاز حذف اللام، فاذا قلت. جئتك ضرب زيد، لم يدل الضرب على مضي ولا إستقبال.
المعنى:
فاذا حلف لا يعطي من معروفه، ثم رأى أن برّه خيراً، أعطاه، ونقض يمينه. وعندنا لا كفارة عليه، وإنما جاز ذلك، لأنه لا يخلو من أن يكون حلف يميناً جائزة أو غيره جائزة، فان كانت جائزة، فهي مقيدة بأن لا يرى ما هو خير، فليس في هذا مناقضة للجائزة، وإن كانت غير جائزة، فنقضها غير مكروه.
وقوله: { والله سميع عليم } معناه: أنه سميع ليمينه، عليم بنيته فيه، وفي ذلك تذكير، وتحذير.