التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٢٤٩
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ { غرفة } - بالفتح - ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع. الباقون بالضم، وهما لغتان.
اللغة:
قوله: { فلما فصل } معناه قطع، والفصل: القطع. يقال فصل اللحم عن العظم أي قطعه فأبانه عنه، وفصل الصبي فصلاً: إذا قطعه عن اللبن. وقول فصل أي يفصل بين الحق والباطل. والجنود جمع جند قال السدي: كانوا ثمانين ألف مقاتل، والاجناد جمع القلة. وجنّد الجنود تجنيداً أي جمعهم. والجند الأرض الغليظة وكل صنف من الخلق: جند على حدة. وفي الحديث: الأرواح جنود مجندة. وأصل الباب الجند: الغليظ من الأرض.
المعنى:
قوله: { إن الله مبتليكم بنهر } فمعنى الابتلاء ها هنا تمييز الصادق من الكاذب في قوله - على قول الحسن -. وقال وهب بن منية: السبب الذي لأجله ابتلوا بالنهر شكايتهم قلة المياه، وخوف التلف من العطش. والنهر الذي ابتلوا به، قال ابن عباس، والربيع، وقتادة: هو نهر بين الأردن، وفلسطين. وروي عن ابن عباس أيضاً أنه نهر فلسطين. وقوله: { فمن شرب منه } الهاء عائدة على النهر في اللفظ، وهو في المعنى الماء.
وقوله: { فليس مني } معناه ليس على دينى، ولا من أهل ولايتي، فحذف ودلت من عليه.
اللغة:
ويقال: طعم الماء كما يقال طعم الطعام وأنشدوا.

وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا

والغرفة بالفتح المرة من الغرف. والغرفة بالضم ملء الكف من الماء، فالغرفة اسم للماء المغروف والغرفة إسم للفعل. وقال بعضهم الاختيار الضم لأنه لو جاء على معنى المرة، لكان اغترافة. وهذا ليس بشيء، لأنه إذا كان المعنى واحداً جاز اغترافة، لأنه الأصل وجار غرفة، لأنه أخف، وكلاهما حسن. ويقال غرف يغرف غرفاً، واغترف اغترافاً والمغرفة الآلة التي يغرف بها. وغرف غروف أي كبير والغريف: ماء في الاجمة، لأنه يغرف من بين القصب. ومزادة غرفية مدبوغة بالغرف: وهو جنس من الدباغ. والغريف شجر مجتمع من أي شجر كان. والغرفة العلية. وأصل الباب الغرف.
المعنى:
وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: من استكثر من ذلك الماء عطش، ومن لمن يشرب إلا غرفة روي. وقال الفراء، والحسن، وقتادة، والربيع: والذين جازوا النهر مع طالوت كان عددهم مثل عدد أهل بدر، وهم ثلاثة وبضعة عشر، وهم المؤمنون خاصة. وقال ابن عباس، والسدي: جاوزه الكافر، والمؤمن إلا أن الكافرين انخزلوا عنهم، وبقى المؤمنون على عدد أهل بدر. وهذا قوي، لقوله تعالى: { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه }، فلما رأوا كثرة جنود جالوت قال الكفار منهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت } وقال المؤمنون حينئذ الذين عدتهم عدّة أهل بدر { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } قال البلخي: ويجوز أن يكونوا كلهم مؤمنين، غير أن بعضهم أشد إيقاناً وأقوى اعتقاداً، وهم الذين قالوا: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله }.
اللغة:
وتقول: جاز الشىء يجوزه: إذا قطعه. وأجازه إجازة: إذا استصوبه. والشىء يجوز: إذا لم يمنع منه دليل. واجتاز فلان اجتيازاً، واستجاز فعل كذا استجازة. وتجوّز في كلامه تجوّزاً. وتجاوز عن ذنبه تجاوزاً. وجاوزه في الشيء تجاوزه، وجوّزه تجويزاً. وجوز كل شيء وسطه بمجاز الطريق، وهو وسطه الذي يجاز فيه. وقيل هذا اشتقاق الجوزاء، لأنها تعرض جوز السماء أي وسطها، وأما الجوز المروف، ففارسي معرّب. والجواز الصك للمسافر. والمجاز في الكلام، لأنه خروج عن الآجل الى ما يجوز في الاستعمال. وأصل الباب الجواز: المرور من غير شيء يصد، ومنه التجاوز عن الذنب، لأن المرور عليه بالصفح.
المعنى:
وقوله: { وقال الذين يظنون } قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الذين يستيقنون، ذهب إليه السدي قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بالفى مدجج سراتهم في الفارسى المسرد

أي أيقنوا وقيل إنه استعارة فيما يكفي فيه الظن حتى يلزم العمل، فكيف المعرفة، فجاء على وجه المبالغة في تأكد لزوم العمل.
الثاني - يحدثون نفوسهم وهو أصل الظن، لأن حديث النفس بالشيء قد يكون مع الشك ومع العلم إلا أنه قد على ركبت ما كان مع الشك.
الثالث - يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في تلك الواقعة.
وقوله: { كم من فئة } الفئة: الطائفة من الناس، والجمع: فئين وفئات. ولا يجوز في عدة إلا عدات، لأن نقص عدة من أوله. وليس كذلك فئة، وما نقص من أوله يجري في الباب على اطراد بمنزلة غير المنقوص، فأما فئة ومئة. وثبة وعزة، فان النقص فيه على غير اطراد، كما يكون في عدة، وصلة، وزنة، وصفة، وجهة. وتقول فأوت رأسه بالسيف إفاءة وفأواً: إذا قطتعه وانفاء الشيء إنفاءً: إذا تقطع وأصل الباب القطع، فمنه الفئة، لأنهم قطعة من الناس.
وقوله: { غلبت } تقول: غلب يغلب غلباً وغالبه مغالبة وتغالبوا تغالباً. وتغلب تغلباً وغلبه تغليباً. وأشد أغلب: إذا كان غليظ العنق. ورجل أغلب كذلك، لأنه من إمارة الغلب. واغلولب العشب إذا كثر لأنه غلب على غيره بكثرته. وأصل الباب الغلب: القهر.
المعنى:
وقوله: { بإذن الله } معناه بنصر الله على قول الحسن، لأن الله إذا أذن في القتال نصر فيه على الوجه الذي أذن فيه ويجوز في (كم) الجر والنصب وإن كان على معنى الخبر في قول الفراء. وفي الآية حذف لدلالة ما بقى عليه وهو فأتاهم التابوت بالصفة التي وعدوا بها، فصدّقوا لأن قوله { فصل طالوت بالجنود } بعد تلك المنازعة منهم ينبىء أن الآية أتتهم، فانقادوا لأجلها.