التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَٰواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٧٥
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
أصل الربا: الزيادة من قولهم ربا الشيء يربو ربواً إذا زاد. والربا: هو الزيادة على رأس المال. في نسيئة أو مماثلة وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في الأجل أو كاعطاء درهم بدرهمين أو دينار بدينارين، والمنصوص عن النبي (صلى الله عليه وسلم) تحريم التفاضل في ستة أشياء الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح. وقيل: الزبيب: فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها مثلاً بمثل يداً بيد من زاد أو استزاد، فقد أربى. هذا الستة أشياء لا خلاف في حصول الربا فيها، وباقي الأشياء عند الفقهاء مقيس عليها. وفيها خلاف بينهم، وعندنا أن الربا في كل ما يكال، أو يوزن إذا كان الجنس واحداً، منصوص عليه. والربا محرم متوعد عليه كبيرة بلا خلاف، بهذه الآية، وبقوله
{ يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فأذنوا بحرب من الله رسوله } وقوله: { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة: إن قيامهم هذه الصفة يكون يوم القيامة: إذا قاموا من قبورهم، ويكون ذلك إمارة لأهل الموقف على أنهم أكلة الربا. وقوله: { يتخبطه الشيطان } مثل عند أبي علي الجبائي لا حقيقة على وجه التشبيه بحال من تغلب عليه المرة السوداء، فتضعف نفسه ويلج الشيطان بأغوائه عليه فيقع عند تلك الحال ويحصل به الصرع من فعل الله. ونسب إلى الشيطان مجازاً لما كان عند وسوسته. وكان أبو الهذيل وابن الاخشاد يجيزان أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض قالا. لأن الظاهر من القرآن يشهد به، وليس في العقل ما يمنع منه وقال الجبائي: لا يجوز ذلك، لأن الشيطان خلق ضعيف لم يقدره الله على كيد البشر بالقتل والتخبيط ولو قوي على ذلك لقتل المؤمنين الصالحين والداعين إلى الخير، لأنهم أعداؤه، ومن أشد الأشياء عليه. وفي ذلك نظر وأصل الخبط: الضرب على غير استواء، خبطته أخبطه خبطاً. والخبط ضرب البعير الأرض بيديه والتخبظ المس بالجنون أو التخبيل، لأنه كالضرب على غير استواء في الادهاش. والخبطة البقية من طعام أو ماء أو غيره لأنه كالصبة من الدلو وهي الخبطة به، والخبط: ورق تعلفه الابل. والخباط: داء كالجنون، لأنه اضطراب في العقل كالاضطراب في الضرب. والخبطة كالزكمة، لأنها تضرب بالانحدار على اضطراب. والخباط سمة في الفخذ لأنها تضرب فيه على اضطراب ومعنى قوله: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } إن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد مصيره على جهة الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع وذلك خطأ، لأنه أحدهما محرم والآخر مباح، وهو أيضاً منفصل منه في العقد، لأن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الأخر لأجل البيع. والفرق بين البيع والربا: أن البيع ببدل لأن الثمن فيه بدل المثمن. والربا ليس كذلك وإنما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس { وقد أحل الله البيع وحرم الربا } وقوله: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } قال أبو جعفر من أدرك الاسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف. وقال السدي: له ما أكل، وليس عليه ردّ ما سلف، فأما ما لم يقبض بعد، فلا يجوز له أخذه. وله رأس المال. وقال الطبري: الموعظة التذكير والتخويف الذي ذكره الله وخوفهم به من آي القرآن وأوعدهم عليه إذا أكلوا الربا من أنواع العقاب. وقوله: { وما أمره إلى الله } معناه بعد مجيء الموعظة والتحريم، وبعد انتهاء أكله إلى الله (تعالى) عصمته، وتوفيقه إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله. ويحتمل أن يكون أراد، فله ما سلف يعني من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه.
اللغة:
وقوله: { وأمره إلى الله } معناه في جواز العفو عنه إن لم يتب وكل شيء قدمته امامك فهو سلف. والسلوف التقدم يقال: سلف يسلف سلوفاً ومنه الأمم السالفة أي الماضية. والسالفة أعلى العنق. والاسلاف الاعطاء قبل الاستحقاق تقول أسلفت المال إسلافاً، وسلافة الخمر: صفوها لأنه أول ما يخرج من عصيرها والسلفة: جلد رقيق يجعل بطانة للخفاف. وسلف الرجل: المتزوج باخت امرأته والسلفة ما تدخره المرأة لتتحف به زائراً، وأصل الباب التقدم. وقوله: { ومن عاد } فالعود هو الرجوع تقول عاد يعود عوداً إذا رجع. وعيادة المريض: المصير إليه لتعرف خبره. والعود: من عيدان الشجر، لأنه يعود إذا قطع ومنه العود الذي يتبخر به. والعود: المسن من الابل. والمعاد كل شيء إليه المصير. فالآخرة معاد الناس أي مرجع. وقوله:
{ لرادّك إلى معاد } يعني مكة بأن يفتحها عليه.
والاعادة: فعل الشيء ثانية وهو المبدىء المعيد. والعادة تكرر الشيء مرة بعد مرة. وتعود الخير عادة. والعيد كل يوم مجمع عظيم، لأنه يعود في السنة أو في الاسبوع. والعائدة الصله لأنها تعود بنفع على صاحبها وأصل الباب الرجوع. تقول: عاد عوداً واعتاد اعتياداً واستعاد استعادة وعوّد تعويداً، وتعود تعوداً، وعاود معاودة.
المعنى:
ومعنى الآية ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم. وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من أن البيع مثل الربا { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لأن ذلك لا يصدر إلا من كافر، لأن مستحل الربا كافر بالاجماع فلذلك توعده بعذاب الأبد. والخلود والوعيد في الآية يتوجه إلى من أربى، وإن لم يأكله وإنما ذكر الله الذين يأكلون الربا لأنها نزلت في قوم كانوا يأكلونه، فوصفهم بصفتهم وحكمها سائر في جميع من أربى. والآية الأخرى التي ذكرناها وتبين معناها فيما بعد تبين ما قلناه وعليه أيضاً الاجماع وقيل في علة تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش والاجلاب والمتاجر إذا وجد المربي من يعطيه دراهم وفضلا بدراهم. وقال أبوعبد الله (ع) إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف فرضاً أو رفداً وأما ذكر الموعظة ها هنا وأنها في قوله: { قد جاءتكم موعظة من ربكم } لامرين: أحدهما - أن كل تأنيب ليس بحقيقي جاز فيه التذكير والتأنيث فجاء القرآن بالوجهين معاً. والثاني - أنه ذكر ها هنا لوقوع الفصل بين الفعل والفاعل بالضمير وأنث في الموضع الذي لم يفصل. والربا محرم في النقد والنسيئة بلا خلاف وكان بعض من تقدم يقول لا ربا إلا في النسيئة والذي كان يربيه أهل الجاهلية أن يؤخروا الدين عن محله إلى محل آخر بزيادة فيه وهذا حرام بلا خلاف. ومسائل البيع الصحيح منها والفاسد وفروعها بيناها في النهاية والمبسوط وكذلك مسائل الصرف فلا نطول بذكرها في هذا الكتاب.