التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

آية بلا خلاف
الذين في موضع خفض لأنه نعت للمتقين، ويجوز ان يكون رفعاً على الابتداء و { يؤمنون } رفع لأنه فعل مستقبل والواو والنون في موضع رفع لأنه كناية عن الفاعل، والنون الأخيرة مفتوحة لأنها نون الجمع والصلاة نصب لأنها مفعول به. والايمان في اللغة هو التصديق، ومنه قوله: وما انت بمؤمن لنا. أي بمصدق لنا. وقال:
{ { يؤمِنُونَ بِالجبتِ والطاغوت } وكذلك هو في الشرع عند أكثر المرجئة ،والمراد بذلك التصديق بجميع ما اوجب الله او ندبه او اباحة وهو المحكي عن ابن عباس في هذه الاية لأنه قال: الذين يصدقون بالغيب.
وحكى الربيع بن انس انه قال: الذين يخشون بالغيب. وقال: معناه يطيعون الله في السر والعلانية. وقيل: إن الايمان مشتق من الامان، والمؤمن من يؤمن نفسه من عذاب الله، والله المؤمن لاوليائه من عذابه وذلك مروي في اخبارنا وقالت المعتزلة باجمعها: الايمان هو فعل الطاعة، ومنهم من اعتبر فرائضها ونوافها، ومنهم من اعتبر الواجب منها لا غير، واعتبروا اجتناب الكبائر من جملتها.
وروي عن الرضا عليه السلام: ان الايمان هو التصديق بالقلب والعمل بالاركان والقول باللسان. وقد بينا الاقوى من ذلك في كتاب الاصول.
واما { الغيب } فحكي عن ابن عباس انه قال: ما جاء من عند الله. وقال جماعة من الصحابة كابن مسعود وغيره: ان الغيب ما غاب عن العباد علمه من امر الجنة والنار والأرزاق والاعمال وغير ذلك، وهو الاولى لأنه عام، ويدخل فيه ما رواه اصحابنا من زمان الغية ووقت خروج المهدي عليه السلام. وقال قوم: الغيب هو القرآن، حكي ذلك عن زر بن جيش. وذكر البلخي ان الغيب كل ما ادرك بالدلائل والآيات مما تلزم معرفته. وقال الرماني: الغيب خفاء الشيء عن الحس قرب أو بعد إلا انه قد كثرت صفة الغائب على البعيد الذي لا يظهر للحس.
واصل الغيب من غاب يقولون: غاب فلان يغيب، وليس الغيب ما غاب عن الادراك لأن ما هو معلوم وان لم يكن مشاهداً، لا يسمى غيباً، والأولى ان تحمل الآية على عمومها في جميع من يؤمن بالغيب، وقال قوم: انها متناولة لمؤمني العرب خاصة دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب، قالوا بدلالة قوله فيما بعد { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } قالوا ولم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي انزله الله على نبيه تدين بتصديقه، وانما الكتاب لأهل الكتابين وهذا غير صحيح لأنه لا يمنع أن تكون الآية الاولى عامة في جميع المؤمنين المصدقين بالغيب وإن كانت الآية الثانية خاصة في قوم لأن تخصيص الثانية لا يقتضي تخصيص الأولى.
وقال قوم: انهما مع الآيتين اللتين بعدهما أربع آياتٍ نزلت في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها. وقال قوم: ان الأربع آيات من أول السورة نزلت في جميع المؤمنين، واثنتان نزلتا في نعت الكافرين، وثلاثة عشر في المنافقين وهذا أقوى الوجوه، لأنه حمل على عمومه، وحكي ذلك عن مجاهد وقوله: { يقيمون الصلاة } فاقامتها أداؤها بحدودها وفرائضها وواجباتها، كما فرضت عليهم يقال: أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع والشراء قال الشاعر:

أقمنا لأهل العراقين سوق الضراب فخاموا وولوا جميعا

وقال أبو مسلم محمد بن بحر: معنى { يقيمون الصلاة } يديمون أداء فرضها يقال للشيء الراتب قائم ولفاعله مقيم، ومن ذلك: فلان يقيم أرزاق الجند. وقيل انه مشتق من تقويم الشيء من قولهم: قام بالأمر، إذا أحكمه وحافظ عليه. وقيل انه مشتق مما فيه من القيام، ولذلك قيل قد قامت الصلاة.
وأما الصلاة فهي الدعاء في اللغة، قال الشاعر:

وقابلها الريح في دنّها وصلى على دنّها وارتسم

أي دعا لها. وقال الأعشى:

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها فان ذبحت صلى عليها وزمزما

يعني دعا لها: وأصل الاشتقاق في الصلاة من اللزوم من قوله تصلى ناراً حامية، والمصدر الصلا ومنه اصطلى بالنار إذا لزمها، والمصّلى الذي يجيء في اثر السابق للزوم أثره، ويقال للعظم الذي في العجز صلواً، وهما صلوان.
فأما في الشرع ففي الناس من قال إنها تخصصت بالدعاء والذكر في موضع مخصوص. ومنهم من قال، وهو الصحيح، انها في الشرع عبارة عن الركوع والسجود على وجه مخصوص وأركان واذكار مخصوصة. وقيل انها سميت صلاة لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله ونعمه مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته.
وأما الرزق، فهو ما للحي الانتفاع به على وجه لا يكون لأحد منعه منه، وهذا لا يطلق إلا فيما هو حلال فأما الحرام فلا يكون رزقاً لأنه ممنوع منه بالنهي، ولصاحبه أيضاً منعه منه، ولأنه أيضاً مدحهم بالانفاق مما رزقهم، والمغصوب والحرام يستحق الذم على إنفاقه، فلا يجوز أن يكون رزقاً.
وقوله: { ومما رزقناهم ينفقون } حكي عن ابن عباس انها الزكاة المفروضة يؤتيها احتساباً. وحكي عن ابن مسعود أنها نفقة الرجل على أهله، لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة. وقال الضحاك: هو التطوع بالنفقة فيما قرّب من الله والأولى حمل الآية على عمومها فيمن أخرج الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة وتطوع بالخيرات.
وأصل الرزق الحظ لقوله:
{ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون } }: أي حظكم، وما جعله حظا لهم فهو رزقهم.
والانفاق أصله الاخراج، ومنه قيل: نفقت الدابة إذا خرجت روحها، والنافقاء، جحر اليربوع، من ذلك لأنه يخرج منها. ومنه النفاق لأنه يخرج إلى المؤمن بالايمان والى الكافر بالكفر.