التفاسير

< >
عرض

فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٣٧
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ إبن كثير (آدم) بنصب الميم. (كلمات) برفع التاء.
اللغة:
يقال: لقي زيد خيراً فيتعدى الفعل إلى مفعولٍ واحد. ومنه قوله
{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } }. وقوله: { { إذا لقيتم فئةً فاثبتوا } و { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } فاذا ضعفت العين تعدى إلى مفعولين. تقول: لقيّت زيداً خيراً. قال الله تعالى: { { ولقاهم نضرة وسروراً } }. وتقول: لقيت بعض متاعك على بعض، فتعديه إلى مفعولٍ واحد لأنه بناء مفرد لا لأنه منقول ليتعدى إلى مفعولين. وتقول: لقيته لقية واحدة في التلاقي واللقيان. ولقيته لقاء ولقياناً ولقاة. وقوله: { { تحيتهم يوم يلقونه سلامٌ } معناه يلقون ثوابه بخلاف قوله: { { يلقون غيا
}. المعنى:
ومعنى { تلقى آدم من ربه كلمات }. تعلمها. يقال: تلقيت هذا من فلان أي قبله فهمي من لفظه. قال أبو عبيدة: قال أبو مهدية: ـ وتلا عليه آيات من القرآن قال: تلقيتها من عمي تلقاها من أبي هريرة، تلقاها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصل الملاقاة الملاصقة، لكنه كثر حتى قيل: لاقى فلان فلاناً: إذا قاربه، وإن لم يلاصقه. وكذلك تلاقى الجيشان، وتلاقى الفرسان. ويقال: تلاقى الخطان أي تماسا. وتقول: تلقيت الرجل بمعنى استقبلته. وتلقاني: استقبلني. فعلى هذا يجوز في العربية رفع ادم، ونصبه، مع رفع الكلمات. والاختيار قراءة الاكثر، لأن معنى التلقي ها هنا القبول. فكأنه قال: قبل آدم من ربه كلمات. وانما جاز نصب آدم، لأن الأفعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة اقسام: احدها يجوز ان يكون الفاعل له مفعولا به والمفعول به فاعلا. نحو اكرم بشرٌ بشراً وشتم زيد عمراً
[ثانيها] ومنها لا يكون المفعول به فاعلا، نحو: أكلت الخبز، وسرقت درهماً، وأعطيت ديناراً، وأمكنني الغرض.
[وثالثها] ما يكون أسناده إلى الفاعل في المعنى كاسناد إلى المفعول، نحو: أصبت ونلت، وتلقيت. تقول: نالني خيرٌ، ونلت خيراً، وأصابني خيرٌ، وأصبت خيراً. ولقيني زيدٌ، ولقيت زيداً. وتلقاني، وتلقيته. وقال تعالى:
{ { وقد بلغني الكبر } وقال: { { وقد بلغت من الكبر عتيا } فعلى هذا الرفع والنصب في المعنى واحد في الآية. وإنما اجيز رفع آدم، لأن عليه الأكثر وشواهده اكثر. كقوله { { تلقونه بألسنتكم } }. واسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام متلقى. كما أن الذي تلقى آدم كلام متلقى وكما اسند الفعل إلى المخاطبين. فجعل التلقي لهم كذلك يلزم ان يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التلقي له دون الكلمات. واما على ما قال ابوعبيدة معناه قبل الكلمات، فالكلمات مقبولة، فلا يجوز غير الرفع في آدم. ومثل هذا في جواز اضافته تارة إلى الفاعل، واخرى إلى المفعول. كقوله: { { لا ينال عهدى الظالمين } }. وفي قراءة ابن مسعود: { لا ينال عهدي الظالمون } والكلمات جمع كلمة. والكلمة: اسم جنس لوقوعه على الكثير والقليل. يقولون: قال امرؤ القيس في كلمته يعني في قصيدته. وقال قِسّ في كلمته يعنون في خطبته. فوقوعها على الكثير نحو ما قلناه. ووقوعها على القليل قال سيبويه: قال قد اوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد. فأما الكلام فان سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفاً من هذه الكلم فقال: لو قلت: إن تضرب ناساً لم يكن كلاماً. وقال ايضاً: انما، فقلت، ونحوه، ما كان كلاماً (بل) قولا واوقع الكلام على المتألف. والذي حرره المتكلمون، ان حد الكلام ما انتظم من حرفين فصاعداً من هذه الحروف المنقولة، إذا وقع ممن يصح منه او من قِبِله الافادة. ثم ينقسم قسمين: مفيد، ومهمل. فالذي أراد سيبويه أنه لا يكون كلاماً، أنه لا يكون مفيداً وذلك صحيح. فأما تسميته بأنه كلام، صحيح. وكيف لا يكون صحيحاً، وقد قسموه إلى قسمين: مهمل، ومفيد، فأدخلوا المهمل الذي لا يفيد في جملة الكلام.
والكلمة والعبارة، والابانة، نظائر. وبينها فروق. والفرق بين الكلمة والعبارة، أن الأظهر في الكلمة هي الواحدة من جملة الكلام ـ وان قالوا في القصيدة أنها الكلمة ـ والعبارة تصلح للقليل والكثير. وأما الابانة فقد تكون بالكلام، والحال، وغيرهما من الأدلة: كالاشارة والعلامة، وغير ذلك. وأما النطق فيدل على إدارة اللسان بالصوت، وليس كذلك الكلام ولهذا يقولون: ضربته فما تكلم، ولا يقولون: فما نطق، اذا كان صاح. وكذلك لا يجوز أن يقال في الله: إنه ناطق. وأما اللفظ فهو من قولك: لفظت الشيء: إذا أخرجته من فمك. وليس في الكلام مثل ذلك. ويقال: كلمته تكليماً وكلاماً. وتكلم تكلما. ولذلك لا يجوز أن يقال فيه تعالى لَفَظَ، ولا أنه لافظ. والكلْم: الجرح. والجمع: الكلوم. يقال: كلمته أكلمه كلمماً، فأنا كالم، وهو مكلوم. وكليمك: الذي يكلمك. ويقال: كِلْمة وكلِمة لغة تميمية، وقيل إنها حجازية. وتميم حكي عنها كلمة بكسر الكاف وتسكين اللام، وحكي تسكين اللام مع فتح الكاف. وأصل الباب أنه أثرٌ دالُّ والكلْم أثر دال على الجارح. والكلام أثر دال على المعنى الذي تحته. والمتكلِّم: من رفع ما سميناه كلاماً بحسب دواعيه وأحواله. وربما عُبِّر عنه بأنه الفاعل للكلام. وليس المتكلم من حله الكلام، لأن الكلام يحلُّ اللسان والصدر ولا يوصفان. بذلك. وقد بينا فساد الكلام النفسي في كتاب العدة، في أصول الفقه. وقلنا: إن اختصر ذلك، هل هو إلا الخبر، أو ما معناه معنى الخبر، وإن كان لكل قسم معنى يخصه؟.
المعنى:
والكلمات التي تلقاها آدم قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد:
{ { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } فان في ذلك اعترافاً بالخطيئة، ولذلك وقعت موقع الندم. وحقيقته الانابة. وحكي عن مجاهد أنه قال: هي قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين. اللهم لا إله إلا انت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك أنت خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وروى مثل ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. وحكي عن ابن عباس: أن آدم قال لربه إذ عصاه: أرأيت أن تبت وأصلحت؟. فقال له تعالى: إني راجعك إلى الجنة وكانت هذه الكلمات. وروي في أخبارنا: أن الكلمات هي توسله بالنبي عليه السلام وأهل بيته. وكل ذلك جائز.
قوله { فتاب عليه }
اللغة:
فالتوبة، والانابة، والاقلاع، نظائر في اللغة. وضد التوبة: الاصرار. يقال: تاب يتوبُ توبةً، وتواباً واستتابة. والله تعالى يوصف بالتوّاب. ومعناه أنه يقبل التوبة عن عباده. وأصل التوبة: الرجوع عما سلف، والندم على ما فرط. والله تعالى تائب على العبد بقبول توبته. والعبد تائب إلى الله بمعنى نادم على معصيته والتائب: صفة مدح لقوله:
{ { التائبون العابدون } }. والتوبة شرطها الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله من القبيح، لأن هذه التوبة هي المجمع على سقوط العقاب عندها، وما عداها فمختلف فيه. وقد يقول القائل: قد تبت من هذا الأمر أي عزمت على ألا أفعله، وصرت بمنزلة التائب، وذلك مجاز. وكل معصية لله تعالى فانه يجب التوبة منها، والتوبة يجب قبولها، لأنها طاعة. فأما إسقاط العقاب عنده فتفضل منه تعالى. وقالت المعتزلة ومن وافقها: وذلك واجب. وقد بينا الصحيح من ذلك في شرح الجمل. والتوبة اذا كانت من ترك ندب عندنا تصح. وتكون على وجه الرجوع إلى فعله. وعلى هذا تحمل توبة الانبياء كلهم في جميع ما نطق به القرآن، لأنه قد بينا أنه لا يجوز عليهم فعل القبيح. والمطبوع على قلبه له توبة. وبه قال أهل العدل. وقالت البكرية لا توبة له. وهو خطأ، من قِبل انه لا يصح تكليفه إلا وهو متمكن من أن يتخلص من ضرر عقابه. وذلك لا يتم إلا بأن يكون له طريق إلى إسقاط عقابه. وقد وعد الله بذلك ـ وإن كان تفضلا ـ إذا حصلت التوبة واختلفوا في التوبة من الغصب، هل تصح مع الاقامة على منع المغصوب؟. فقال قوم: لا تصح: وقال آخرون: تصح ـ وهو الأقوى ـ إلا أن يكون فاسقاً بالمنع، فيعاقب عقاب المانع، وإن سقط عنه عقاب الغصب. والصحيح أن القاتل عمداً تصح توبته. وقال قوم: لا تصح. والتوبة من القتل الذي يوجب القود، قال قوم: لا تصح إلا بالاستسلام لولي المقتول، وحصول الندم، والعزم على أن لا يعود. وقال قوم آخرون: تصح التوبة من نفس القتل، ويكون فاسقاً بترك الاستسلام. وهذا هو الأقوى، واختاره الرماني. فاما التوبة من قبيح بفعل آخر، فلا تصح على أصلنا كالتائب من الالحاد بعبادة المسيح. وقال قوم: تصح. وأجراه مجرى معصيتين يترك باحداهما الأخرى، فانه لا يؤاخذ بالمتروكة وقال قوم: التوبة من اعتقاد جهالة إذا كان صاحبها لا يعلم انها معصية بأنه يعتقد انه لا محجوج إلا عارف، فانه يتخلص من ضرر تلك المعصية إذا رجع عنها إلى المعرفة، وإن لم يوقع معها توبة. وقال آخرون: لا يتخلص إلا بالتوبة، لأنه محجوج فيه، مأخوذ بالنزوع عن الاقامة عليه، وهو الأقوى. فأما ما نسي من الذنوب، فانه يجري مجرى التوبة منه على وجه الجملة. وقال قوم: لا يجري وهو خطأ، لأنه ليس عليه في تلك الحال اكثر مما عمل فأما ما نسي من الذنوب مما لو ذكر، لم يكن عنده معصية. وهل يدخل في الجملة إذا اوقع التوبة من كل خطيئة؟ قال قوم: يدخل فيها. وقال آخرون لا يدخل فيها، لكنه يتخلص من ضرر المعصية، لأنه ليس عليه اكثر مما علم في تلك الساعة. والأول اقوى، لأن العبد إذا لم يذكر صرف توبته إلى كل معصية هي في معلوم الله معصية. فأما المشرك إذا كان يعرف قبل توبته بفسق ـ إذا تاب من الشرك ـ هل يدخل فيه التوبة من الفسق في الحكم، وإن لم يظهر التوبة منه؟. قال قوم: لا يزول عنه حكم الفسق، وهو قول اكثر المعتزلة. وقال قوم: يزول عنه حكم الفسق. وقال الأخشيد: القول في هذا باجتهاد. والذي يقوى في نفسي انه يزول، لأن الاسلام الأصل فيه العدالة إلى ان يتجدد منه بعد الاسلام ما يوجب تفسيقه. فأما التوبة من قبيح مع الاقامة على قبيح آخر، يعلم ويعتقد قبحه، فعند اكثر من تقدم صحيحة وقال ابو هاشم، واصحابه: لا تصح وقد قلنا ما عندنا في ذلك، في شرح الجمل واعتمد الأولون على ان قالوا: كما يجوز ان يمتنع من قبيح لقبحه، ويفعل قبيحاً آخراً، وإن علم قبحه كذلك جاز ان يندم من القبيح، مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه. وهذا إلزام صحيح معتمد واختلفوا في التوبة عند ظهور اشراط الساعة، هل تصح ام لا؟ فقال الحسن: يحجب عنها عند الآيات الست. ورواه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) انه قال: "بادروا الأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها: والدَّجال، والدُّخان ودابة الأرض، وخويصة أحدكم يعني الموت، وأمر العامة يعني القيامة" . وقال قوم: لا شك أن بعض الآيات يحجب، وباقيها محجوز. وهو الأقوى.
وقوله: { فتاب عليه }. يعني قبل توبته، لأنه لما عرضه للتوبة، بما ألقاه من الكلمات فعل التوبة، وقبلها الله تعالى منه [وقيل تاب عليه أي وفق للتوبة وهداه اليها] فقال اللهم تب عليّ أي وفقني للتوبة. [فلقنه الكلمات حتى قالها فلما قالها قبل توبته].
وقوله: { إنه هو التواب الرحيم }. إنما ذكر الرحيم، ليدل بذلك على أنه متفضل بقبول التوبة، ومنعم به، وأن ذلك ليس هو على وجه الوجوب، على ما يقوله المخالف. ومن خالف في ذلك يقول: لما ذكر التواب بمعنى الغفار باسقاط العقوبة، وصل ذلك بذكر النعمة، ليدل على أنه مع إسقاط العقوبة، لا يخلي العبد من النعمة الحاصلة ترغيباً له، وفي الانابة والرجوع اليه بالتوبة. "وتواب" بمعنى أنه قابل التوبة لا يطلق إلا عليه تعالى، ولا يطلق في الواحد منا. وإنما قال: { فتاب عليه }. ولم يقل فتاب عليهما، لأنه اختصر، كما قال:
{ { والله ورسوله أحق أن يرضوه } }. ومعناه أن يرضوهما. كذلك معنى الآية: فتاب عليهما ومثل ذلك قوله: { { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } وقال الشاعر:

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً، ومن جول الطَّوِي رماني

وقال آخر:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

وحكي عن الحسن، انه قال: لم يخلق الله آدم إلا للأرض، ولو لم يعص لخرج على غير تلك الحال. وقال غيره: يجوز ان يكون خلقه للأرض إن عصى ولغيرها ان لم يعص وهو الأقوى لأن ما قاله لا دليل عليه وروي عن قتادة: ان اليوم الذي قبل الله توبة آدم فيه يوم عاشوراء ورواه ايضاً اصحابنا