التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ
٤٥
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قال الجبائي: هذا خطاب للمؤمنين دون أهل الكتاب. وقال الطبري، والرماني: هو خطاب لأهل الكتاب، ويتناول المؤمنين على وجه التأديب. والأقوى أن يكون خطاباً لجميع من هو بشرائط التكليف، لفقد الدلالة على التخصيص، واقتضاء العموم ذلك. فمن قال: إنه خطاب لأهل الكتاب، قال: لأنه قال: واستعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه: من طاعتي، واتباع أمري واتباع رسولي، وترك ما نهيتكم عنه، والتسليم لأمري ولمحمد "صلى الله عليه وسلم" بالصبر والصلاة.
اللغة:
وأصل الصبر: هو منع النفس محابها، وكفها عن هواها. ومنه الصبر على المصيبة، لكفه نفسه عن الجزع. وقيل لشهر رمضان: الصبر، لصبر صائمه عن الطعام والشراب نهاراً وصبرت إياهم صبرة: حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما يصبر الرجل القتيل، فيحبسه عليه، حتى يقتله صبراً يعني حبسه عليه، حتى قتله. والمقتول: مصبور. والقاتل: صابر. والصبر. واللبث، والحبس، نظائر. والصبر: ضد الجزع. وأنشد أبو العباس:

فان تصبرا، فالصبر، خيرُ معيشة وإن تجزعا، فالأمر ما تريان

ويقال: صبر صبراً. وتصبر تصبراً. واصطبر، اصطباراً. وتصابر تصابراً. وصابره مصابرة. قال صاحب العين: الصبر: نصب الانسان للقتل. فهو مصبور. يقال: صبروه أي نصبوه للقتل. ويقال: صبرته أي حلفّته بالله جهد نفسه. وكل من حبسته لقتل أو يمين، فهو قتل صبر ويمين صبر. والصبر: عصارة شجر معروف. والصبار: تمر الهند. وصبر الاناء ونحوه: نواحية. وأصبار القبر: نواحيه. والصبرة من الحجارة: ما اشتد وغلظ. والجمع: الصبّار. وأم صبار: هي الداهية الشديدة. وصبر كل شيء: أعلاه. وصبير القوم: الذي يصبر معهم في أمرهم وصبر الخِوان: رقاقة غليظة تبسط تحت ما يؤكل من الطعام. وتقول: اشتريت الشيء بلا صبر أي بلا كيل والصبير: الكفيل واصل الباب: الصبر الذي هو الحبس.
المعنى:
والصبر خلق محمود، أمر الله تعالى به ودل عليه، فقال:
{ { واصبر وما صبرك إلا بالله } وقال: { { اصبروا وصابروا } وقال: { { وبشر الصابرين } وقال: { { واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } وفى الحديث: "اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر" وذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر فأمر بقتل القاتل، وحبس الممسك. والصبر المأمور به في الآية، قيل: فيه قولان: أحدهما ـ الصبر على طاعته واجتناب معصيته. والثاني ـ أنه الصوم. وفي الصلاة ها هنا قولان: أحدهما ـ الدعاء. والثاني ـ أنها الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أحزنه أمر، استعان بالصلاة والصوم. ووجه الاستعانة بالصلاة، لمكان ما فيها من تلاوة القرآن والدعاء والخضوع لله تعالى، والاخبات. فان في ذلك معونة على ما تنازع اليه النفس من حب الرياسة والانفة من الانقياد إلى الطاعة.
والضمير في قوله: { وإنها لكبيرة } عائد على الصلاة عند أكثر المفسرين. وقال قوم: عائد إلى الاجابة للنبي (عليه السلام) وهذا ضعيف، لأنه لم يجر للاجابة ذكر ولا هي معلومة، إلا بدليل غامض. وليس ذلك كقوله { إنا أنزلناه } لأن ذلك معلوم ورد الضمير على واحد، وقد تقدم ذكر شيئيين فيه قولان: أحدهما: ـ انها راجعة إلى الصلاة دون غيرها على ظاهر الكلام، لقربها فيه ولأنها الأهم والأفضل ولتأكيد حالها وتفخيم شأنها وعموم فرضها. والآخر ـ ان يكون المراد الاثنين وان كان اللفظ واحداً كقوله:
{ { والله رسوله أحق أن يرضوه } قال الشاعر:

اما الوسامة او حسن النساء فقد اوتيت منه أوانّ العقل محتنك

وقال البرجمي:

فمن يك امسى بالمدينة رحله فاني وقيار بها لغريب

وقال ابن احمد:

رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن طول الطوي رماني

وقال آخر:

نحن بما عندنا وانت بما عندك راضٍ والرأي مختلف

وقوله { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها }. قال قوم: اللفظ واحد والمراد به اثنان. وقال الفرّاء: راجع إلى التجارة لأن تجارةً جاءت فضربوا بالطبل فانصرف الناس اليها.
والاستعانة في الآية المامور بها على ما تنازع اليه نفوسهم من حب الرياسة وغلبة الشهوة للذة العاجلة والاستعانة بالصبر على المشقة بطاعة الله. ومعنى (الكبيرة) ها هنا أي ثقيلة ـ عند الحسن والضحاك. وأصل ذلك ما يكبر ويثقل على الانسان حمله، كالأحمال الجافية التي يشق حملها، فقيل لما يصعب على النفس، وان لم يكن من جهة الحمل ـ يكبر عليها. تشبيهاً بذلك.
وقوله: { إلا على الخاشعين }
اللغة:
فالخشوع، والخضوع، والتذلل، والاخبات، نظائر. وضد الخضوع: الاستكبار. يقال: خشع خشوعاً. وتخشع تخشعاً. قال صاحب العين: خشع الرجل يخشع خشوعاً: إذا رمى ببصره الأرض. واختشع: إذا طأطأ رأسه كالمتواضع. والخشوع قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والاقرار بالاستخدام. والخشوع في الصوت والبصر. قال الله تعالى: { خاشعة أبصارهم } و
{ وخشعت الأصوات للرحمن } }. أي سكنت. وأصل الباب: من اللين والسهولة من قولهم: نقاً خاشعاً: للأرض التي غلبت عليها السهولة. والخاشع: الأرض التي لا يهتدى إليها بسهولة، لمحو الرياح آثارها. والخاشع، والمتواضع، والمتذلل، والمسكين، بمعنى واحد قال الشاعر:

لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع

وخاشع: صفة مدح، لقوله: { والخاشعين والخاشعات } وإنما خص الخاشع بأنها لا تكبر عليه، لأن الخاشع قد تواطأ ذلك له، بالاعتياد له، والمعرفة بماله فيه، فقد صار بذلك بمنزلة ما لا يشق عليه فعله، ولا يثقل تناوله وقال الربيع بن أنس: { الخاشعين } في الآية: الخائفون.