التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
{ بارئكم } اسكن الهمزة فيها ابو عمرو. إلا المعدل وسحارة من طريق الجرمي، وابن مجاهد فكلهم خففوا الهمزة فيها. الا ابا طاهر عن ابن مجاهد عن اسماعيل فانه قلبها ياء.
التقدير واذكروا ايضاً اذ قال موسى لقومه: { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل }. وظلمهم اياها كان فعلهم بها ما لم يكن لهم ان يفعلوه بما يستحق به العقاب. وكذلك كل من فعل فعلا يستحق به العقاب فهو ظالم لنفسه. وقد بينا معنى التوبة فيما مضى. واما قوله: { إلى بارئكم }.
اللغة:
فالبارىء هو الخالق الصانع. يقال: برأه. واستبرأ استبراء، وتبرأ تبريا، وباراه مباراة، وبرأه براءة، وتبرئة. قال صاحب العين: البرأ مهموز وهو الخلق تقول برأ الله الخلق وهو يبرؤهم وهو البارىء وقال امية:

الخالق البارىء المصور في ال أرحام ماء حتى يصير دما

والبرء السلامة من السقم. تقول برأ برؤه وبرئت وبرأت وبرؤت براءة. وتبرأ تبريا لغة في هذا والبراءة من العيب والمكروه لا يقال منه: الا برىء براء وفاعله برىء وفلان برىء وبراء كقوله: إني براء. وامرأة براء. ونسوة براء وبراء على وزن فعلاء. ومنه قوله: "انا برآء منكم" جمع برىء. ومن ترك الهمزة. قال: براء على وزن فعال. وتقول بارأت الرجل اي برئت اليه. وبرىء إلى مثل ذلك. وبارات المراة اي صالحتها على المفارقة وابرات الرجل من الضمان والدين وبرأه تبرئة. ويقال: ابرأ الله فلانا من المرض إبراء حسناً، والاستبراء: استبراء الجارية والمرأة بان لا يطأها حتى تحيض. والاستبراء نقاء الفرج من القذر. وأصل الباب تبري الشيء من الشيء: وهو انفصاله منه. وبرأ الله الخلق اي فطرهم، فانهم انفصلوا من العدم إلى الوجود. والبرية الخلق، فعيلة بمعنى مفعول، لا يهمز كما لا يهمز ملك وان كان اصله من الالوكة. وقيل البرية مشتقة من البراوة، وهو التراب، فلذلك لم تهمز. وقيل إنه مأخوذ من بريت العود، فلذلك لم يهمز. والبراءة من الشيء: المفارقة والمباعدة عنه: وبرىء الله من الكافر: باعده عن رحمته وانواع الفعل كثيرة: منها الخلق، والانشاء، والارتجاع. والبرء: الفطر. فأما الاحداث، والايجاد والتكوين فكالفعل والجعل: اعم من الفعل، لأنه لما وجد بعد ان لم يكن كقولك: جعلت الطين خزفا. فلم يحدث الخزف في الحقيقة، وانما احدث ما صار خزفاً.
وقوله: { فاقتلوا }
اللغة:
فالقتل والذبح والموت نظائر. وبينها فرق: فالقتل نقض بنية الحياة. والذبح فري الاوداج. والموت عند من اثبته معنى عرض يضاد الحياة. يقال: قتل يقتل قتلا. واقتتلوا اقتتالا. وتقاتلوا تقاتلا. واستقتل استقتالا. وقتل تقتيلا. وقاتله مقاتلة. وقوله تعالى:
{ { قاتلهم الله } معناه لعنهم الله. وقوم اقتال: اي هم اهل الوتر، والترة: اي هم اعداء وتراة. وتقول: تقتلت الجارية للفتى يصف به العشق. وقال الشاعر:

تقتلت لي حتى اذا ما قتلني تنسكت ما هذا بفعل النواسك

واقتل فلان فلانا: اذا عرضه للقتل. والمقتل من الدواب الذي قد ذل ومرن على العمل. وقلب مقتل: اي قتل عشقاً. ومنه قول امرىء القيس:

في اعشار قلب مقتل

قال ابن دريد: قتلت الخمر بالماء إذا مزجتها. قال الشاعر:

ان التي ناولتني فرددتها قُتلت قتلت فهاتها لم تقتل

وتقتل الرجل لحاجة اي يأتي لها. ويقتل الرجل للمرأة: اذا خضع لها في كلامه وقتل الرجل: عدوه. والجمع اقتال. وفلان قتل فلان: أي نظيره، وابن عمه وقتله قتله سوء واقتتلوا بمعنى تقاتلوا ومثله قتلوا قال ابو النجم:

ندافع الشيب ولم يقتل

وناقة ذات قتال وذات كيال، اذا كانت غليظة وثيقة الخلق. في المثل: قتلت ارض جاهلها، وقتل ارضا عالمها. ومقاتل الانسان: هي التي اذا اصيبت قتلت. وأصل الباب: القتل وهو نقض البنية التي تصح معها الحياة. وقال المبرد: واصله اماتة الحركة. وقوله: { قاتلهم الله أنى يؤفكون } اي قد حلوا محل من يقال له هذا القول. اي انزل الله بهم القتل. ويقول قتله علما اذا ايقنه وتحققه.
وقوله: { فاقتلوا أنفسكم }.
المعنى:
قيل في معناه قولان:
احدهما ـ يقتل بعضكم بعضا. ذهب اليه ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن وغيرهم من اهل العلم، كما يقول القائل: قتل آل فلان اذا قتل بعضهم بعضا.
والثاني ـ ذكره ابن عباس واسحاق واختاره ابو علي. وهو ان يستسلموا للقتل فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لانفسهم على وجه التوسع. وقيل: ان السبعين الذين اختارهم موسى للميقات امروا بالقتل لمن سأل الرؤية من بني اسرائيل وقيل: إنهم قتلوا انفسهم كما امروا. عمدوا إلى الخناجر وجعل بعضهم يطعن بعضا. قال ابن عباس وغيره من اهل العلم: ويقال غشتهم ظلمة شديدة فجعل بعضهم يقتل بعضا، ثم انجلت الظلمة، فاجلوا عن سبعين الف قتيل. والسبب الذي لاجله امروا بقتل انفسهم ذكره ابن جريج: ان الله علم ان ناساً منهم علموا ان العجل باطلا فلم يمنعهم ان ينكروا الا خوف القتل، فلذلك بلاهم الله ان يقتل بعضهم بعضا. وقال الرماني: ولا بد ان يكون في الامر بالقتل لطف لهم ولغيرهم، كما يكون في استسلام القاتل لطف له ولغيره. فان قيل كيف يكون في قتلهم نفوسهم لطف لهم، وبعد القتل لا تكليف عليهم. واللطف لا يكون لطفاً فيما مضى ولا فيما يقاربه قلنا: اذا كان القوم كلفوا ان يقتل بعضهم بعضا وكل واحد منهم يقصد قتل غيره ويجوز ان يبقى بعده فيكون القتل لطفاً له فيما بعد، ولو كان بمقدار زمان يفعل فيه واجبا واحدا: ويمتنع فيه من قبيح. وذلك كما نقول في عبادتنا في قتال المشركين. فان الله تعالى تعبدنا ان نقاتل حتى نقتل ونقتل ومدح على ذلك، فلذلك روى اهل السير ان الذين عبدوا العجل تعبدوا ان يقاتلوا من لم يعبد ويصبروا على ذلك حتى يقتل بعضهم بعضا. وكان القتل شهادة لمن قتل؛ وتوبة لمن بقي. وانما كانت تكون شبهة، لو امروا بان يقتلوا نفوسهم بايديهم. ولو صح ذلك لكان لا يمتنع بان يكونوا امروا بان يفعلوا بنفوسهم الجراح التي تفضي إلى الموت ـ وان لم يزل معها العقل فينا في التكليف ـ.
وأما على القول الآخر وهو انهم امروا بالاستسلام والقتل والصبر عليه فلا مسألة لانهم امروا بقتل نقوسهم. وعلى هذا يكون قتلهم حسناً، لأنه لو كان قبيحاً لما جاز ان يؤمروا بالاستسلام. وكذلك نقول: لا يجوز ان يتعبد نبي او امام بان يستسلم للقتل مع قدرته على الدفع عن نفسه، فلا يدفعه لأن في ذلك استسلاما للقبيح مع القدرة على الدفع منه، وذلك لا يجوز وانما يقع قتل الانبياء والائمة على وجه الظلم، وارتفاع التمكن من الدفع مع الحرص على الدفع. غير انه لا يمتنع ان يتعبد بالصبر على الدفاع. وتحمل المشقة في ذلك ـ وان قتله غيره ظلما والقتل ـ وان كان قبيحا بحكم العقل ـ، فهو ما يجوز تغيره بان يصير حسنا، لانه جار مجرى سائر الالام. وليس يجري ذلك مجرى الجهل والكذب الذي ليس يصير قط حسناً ووجه الحسن في القتل انه لطف على ما قلناه، وكما يجوز من الله ان يميت الحي، كذلك يجوز ان يامرنا باماتته ويعوضه على ما يدخل عليه من الالام ويكون فيه لطف على ما قدمناه.
وقوله: { ذلكم } اشارة إلى التوبة مع القتل لانفسهم على ما امرهم الله تعالى به بدلالة قوله. { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } فقوله: "توبوا" دال على التوبة، فكانها مذكورة.
وقوله: { خير }
اللغة:
فالخير، والنفع، والفضل، والحظ نظائر وضد الخير: الشر. وضد النفع: الضرر. تقول: خار الله له الخير خيرة. واختار اختياراً واستخار فلان استخارة وتخير تخيراً وتخايراً. وخيره تخييراً. وخايره مخايرة ورجل خير وامرأة خيرة: أي فاضلة. وقوم اخيار، وخيار. وامرأة خيرة. حقيقة في جمالها، وميسمها. ومنه قوله:
{ { فيهن خيرات حسان } }. وناقه خيار. ورجل خيار. وتقول: والجمع خيار. وتقول: هذه وهذا وهؤلاء خيرتي. وما تختاره. وتقول: انت بالخيار وانت بالخيار سواء. والرجل يستخير الضبع واليربوع: اذا جعل حبسه في موضع النافقاء، فخرج من القاصعاء. والخيرة مصدر خار خيرة ساكنة الياء مثل راب ريبة. واصل الباب الخير نقيض الشر. والخير: الهيأه المختارة. وحذفت الياء من قوله: { ياقوم } واثبتت في قوله: { يا ليت قومي } لأن ياء الاضافة تحذف في النداء، لأنه موضع حذف، يحذف فيه التنوين، ويحذف الامم للترخيم، فلما كانت بالاضافة تحذف في غير النداء، لزم حذفها في النداء. وأما قوله: { { يا ليت قومي يعلمون } فانها تثبت لأنها ياء الاضافة. لا يلحقها ما يوجب حذفها، كما لحق الياء في النداء. ويجوز في { ياقوم } كسر الميم وحذف الياء هو اجماع القراء ويجوز بياء ساكنة، ويجوز بفتح الياء وما قرىء بها. فاما إسكان الهمزة. فالذي رواه سيبويه عن ابي عمر واختلاس الحركة. وهو اضبط من غيره والاسكان في مثل هذا يجوز في ضرورة الشعر كقول الشاعر:

اذا اعوججن قلت صاحبْ قوم

وكان ينبغي ان يقال صاحبَ لأنه منادى. وقال امرؤ القيس:

فاليوم فاشرب غير مستحقب اثما من الله ولا واغل

وقد روى بعضهم صاح قوم وروي فاليوم فاشرب وروى بعضهم: فاليوم فاسقي ولا يقال في الله تعالى تائب مطلقاً. وانما يقال: تائب على العبد.
قوله: { فتاب عليكم } فالفاء متعلق بمحذوف كأنه قال ففعلتم او قتلتم انفسكم فتاب عليكم. وكان فيما بقى دلالة عليه.