التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ
٣٧
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ
٤٠
وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
٤١
ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي
٤٢
ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
٤٣
فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ
٤٤
-طه

التبيان الجامع لعلوم القرآن

ثمان آيات بلا خلاف. إلا أن في تفصيلها خلافاً لا نطول بذكره.
لما أخبر الله تعالى موسى بأنه قد آتاه ما طلبه واعطاه سؤله، عدد ما تقدم ذلك من نعمه عليه ومننه لديه. فقال { ولقد مننا عليك مرة أخرى } والمنّ نعمة يقطع صاحبها بها عن غيره باختصاصها به. يقال: منّ عليه يمن مناً إذا انعم عليه نعمة يقطعه إياها. واصله القطع، ومنه قوله
{ { لهم أجر غير ممنون } اي غير مقطوع. وحبل منين: أي منقطع. والمرة الكرة الواحدة من المر، وذلك ان نعمة الله (عز وجل) عليه مستمرة، فذكره الاجابة مرة وقبلها مرة أخرى. وقوله { إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى } أي كانت هذه النعمة عليك حين أوحينا الى أمك ما يوحى، قال قوم: اراد انه ألهمها ذلك. وقال الجبائي: رأت فى المنام أن اقذفيه في التابوت، ثم اقذفيه في اليم، والقذف هو الطرح، واليم البحر قال الراجز:

كنازح اليم سقاه اليم

وقيل: المراد به ها هنا النيل. وقوله { فليلقه اليم بالساحل } جزاء وخبر أخرج مخرج الامر ومثله { اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } والتقدير فاطرحيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل. وقوله { يأخذه عدوّ لي وعدوّ له } يعني فرعون. وكان عدوّ الله بكفره وحدانيته وادعائه الربوبية، وكان عدو موسى، لتصوره أن ملكه ينقرض على يده.
وقوله { وألقيت عليك محبة مني } معناه إني جعلت من رآك احبك حتى احبك فرعون، فسلمت من شره، واحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنتك.
وقوله { ولتصنع على عيني } قال قتادة: معناه لتغذى على محبتي وارادتي، وتقديره وأنا اراك، يجري امرك على ما اريد بك من الرفاهة في غذائك، كما يقول القائل لغيره: أنت مني بمرءاً ومستمع أى انا مراع لاحوالك. وقوله { إذ تمشي اختك فتقول هل أدلكم على من يكفله } قيل ان موسى امتنع أن يقبل ثدي مرضعة الاثدي امه لما دلتهم عليها أخته، فلذلك قال { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن }.
وقوله { وقتلت نفساً فنجيناك من الغم } وروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن قتله النفس كان خطأ. وقال جماعة من المعتزلة: انه كان صغيرة. وقال اصحابنا: انه كان ترك مندوب اليه، لان الله تعالى قد كان حكم بقتله لكن ندبه الى تأخير قتله الى مدة غير ذلك، وانما نجاه من الفكر فى قتله، كيف لم يؤخره الى الوقت الذى ندبه اليه. وقال قوم: أراد نجيناك من القتل لانهم طلبوه ليقتلوه بالقبطي.
وقوله { وفتناك فتوناً } أى اختبرناك اختباراً. والمعنى انا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة، فكل هذا من اكبر نعمه. وقيل: الفتون وقوعه فى محنة بعد محنة حتى خلصه الله منها: اولها - أن امه حملته فى السنة التي كان فرعون بذبح فيها الاطفال، ثم القاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ الله بذلك عنه قتل فرعون، ثم مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره بما عزموا عليه من قتلة. وذلك عن ابن عباس فالمعنى على هذا وخلصناك من المحن تخليصاً. وقيل: معناه اخلصناك إخلاصاً. ذكره مجاهد.
وقوله { فلبثت سنين في أهل مدين } يعني اقمت سنين عند شعيب، يعني احوالا اجيراً له ترعى غنمه، فمننا عليك وجعلناك نبياً حتى { جئت على قدر } أي فى الوقت الذي قدر لارسالك، قال الشاعر:

نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما اتى ربه موسى على قدر

وقال الجبائي معنى { وفتناك فتوناً } أي شددنا عليك التعب فى أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين، ويؤكده قوله { فلبثت سنين في أهل مدين } وهي مدينة شعيب { ثم جئت على قدر يا موسى } وقوله { واصطنعتك } أي اصطفيتك واخلصتك بالالطاف التي فعلتها بك، اخترت عندها الاخلاص لعبادتي. وقوله { لنفسي } أي لتنصرف على ارادتي ومحبتي يقال: اصطنعه يصطنعه اصطناعاً، وهو (افتعال) من لصنع، والصنع اتخاذ الخير لصاحبه. ووجه قوله { لنفسي } يعني محبتي، لان المحبة لما كانت أخص شيء بالنفس حسن أن يجعل ما اختص بها مختصاً بالنفس على هذا الوجه.
وقوله { اذهب أنت وأخوك بآياتي } أي بعلاماتي وحججي { ولا تنيا } أي لا تفترا، يقال: ونى في الامر يني ونياً إذا فتر فيه، فهو وان ومتوان. وقيل: معناه لا تضعفا قال العجاج:

فما ونى محمد مذ أن غفر له إلا له ما مضى وما غبر

وقوله { في ذكري. اذهبا إلى فرعون إنه طغى } أي عتا وخرج عن الحد فى المعاصي { فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } معناه ادعواه الى الله والى الايمان به وبما جئتما به، على الرجاء والطمع، لا على اليأس من فلاحه. فوقع التعبد لهما على هذا الوجه، لأنه أبلغ فى دعائه الى الحق، بالحرص الذي يكون من الراجي للامر. وقال السدي: معنى قوله { فقولا له قولا لينا } أي كنياه. وقيل: انه كانت كنية فرعون ابا الوليد. وقيل: أبا مرة. قيل: معناه وقّراه وقارباه. وقوله { لعله يتذكر } معناه ليتذكر { أو يخشى } معناه أو يخاف. والمعنى انه يكون أحدهما إما التذكر أو الخشية. وقيل المعنى على رجائكما او طمعكما، لانهما لا يعلمان هل يتذكر أو لا. و { لعل } للترجي إلا أنه يكون لترجي المخاطب تارة ولترجي المخاطب أخرى