التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ
٢٦
لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
٢٧
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
٢٨
وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ
٣٠
-الأنبياء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

حكى الله تعالى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم أنهم { قالوا اتخذ الرحمن ولداً } أي تبنا الملائكة بناتاً، فنزه الله تعالى نفسه عن ذلك بأن قال { سبحانه بل عباد مكرمون } أي هؤلاء الذين جعلوهم أولاد الله هم عبيد لله مكرمون لديه، و { عباد } رفع بأنه خبر ابتداء وتقديره هم عباد، ولا يجوز عليه تعالى التبني، لأن التبني إقامة المتخذ لولد غيره مقام ولده لو كان له، فاذا استحال أن يكون له تعالى ولد على الحقيقة استحال أن يقوم ولد غيره مقام ولده، ولذلك لا يجوز أن يشبه بخلقه على وجه المجاز، لما لم يكن مشبهاً به على الحقيقة.
والفرق بين الخلة والنبوة أن الخلة إخلاص المودة بما يوجب الاخلاص والاختصاص بتخلل الاسرار، فلما جاز أن يطلع الله ابراهيم على أسرار لا يطلع عليها غيره تشريفاً له اتخذه خليلا على هذا الوجه، والبنوة ولادة ابن أو إقامته مقام ابن لو كان للمتخذ له. وهذا المعنى لا يجوز عليه تعالى كما يستحيل أن يتخذ إلهاً تعالى الله عن ذلك.
ثم وصف تعالى الملائكة بأنهم { لا يسبقونه بالقول } ومعناه لا يخرجون بقولهم عن حد ما أمرهم به، طاعة لربهم، وناهيك بهذا إجلالا لهم وتعظيماً لشأنهم { وهم بأمره يعملون } أي لا يعملون القبائح وإنما يعملون الطاعات التي أمرهم بها.
وقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } قال ابن عباس: معناه يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم. وقال الكلبي { ما بين أيديهم } يعني القيامة وأحوالها { وما خلفهم } من أمر الدنيا { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } قال أهل الوعيد: معناه لا يشفع هؤلاء الملائكة الا لمن ارتضى الله جميع عمله. قالوا: وذلك يدل على أن اهل الكبائر لا يشفع فيهم، لان أعمالهم ليست رضاً لله. وقال مجاهد: معناه الا لمن رضي عنه.
وهذا الذي ذكروه ليس فى الظاهر، بل لا يمتنع ان يكون المراد لا يشفعون الا لمن رضي الله ان يشفع فيه، كما قال تعالى
{ { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } والمراد أنهم لا يشفعون الا من بعد اذن الله لهم، فيمن يشفعون فيه، ولو سلمنا أن المراد الا لمن رضي عمله، لجاز لنا أن نحمل على أنه رضي ايمانه، وكثيراً من طاعاته. فمن أين أنه أراد: الا لمن رضي جميع اعماله؟! ومعنى - رضا الله - عن العبد إرادته لفعله الذي عرض به للثواب.
وقوله { وهم من خشيته مشفقون } يخافون من عقاب الله من مواقعة المعاصي. ثم هدد الملائكة بقوله { ومن يقل منهم اني إله } تحق لي العبادة من دون الله { فذلك نجزيه جهنم } معناه إن ادعى منهم مدع ذلك فانا نجزيه بعذاب جهنم، كما نجازي الظالمين بها. وقال ابن جريج، وقتادة: عنى بالآية ابليس، لانه الذي ادعى الالهية من الملائكة دون غيره، وذلك يدل على ان الملائكة ليسوا مطبوعين على الطاعات، كما يقول الجهال. وقوله { كذلك نجزي الظالمين } معناه مثل ما جازينا هؤلاء نجزي الظالمين أنفسهم بفعل المعاصي.
ثم قال { أولم ير الذين كفروا } أي اولم يعلموا { أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما } وقيل في معناه اقوال:
قال الحسن وقتادة { كانتا رتقاً } اي ملتصقتين ففصل الله بينهما بهذا الهواء.
وقيل { كانتا رتقاً } السماء لا تمطروا الارض لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر والارض بالنبات، ذكره ابن زيد وعكرمة. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).
وقيل معناه: كانتا منسدتين لا فرج فيهما فصدعهما عما يخرج منهما. وانما قال: السموات، والمطر والغيث ينزل من سماء الدنيا، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق، وقميص اسمال. وقيل الرتق الظلمة ففتقهما بالضياء. وانما قال "كانتا" والسموات جمع، لانهما صنفان، كما قال الاسود بن يعفر النهشلي:

إن المنية والحتوف كلاهما يوقي المحارم يرقبان سوادي

لانه على النوعين، وقال القطامي:

ألم يحزنك أن جبال قيس وتغ ـلب قد تباينتا انقطاعا

فثنى الجمع لما قسمه صنفين صنف لقيس وصنف لتغلب، و { الرتق } السد رتق فلا الفتق رتقاً إذا سده، ومنه الرتقاء: المرأة التي فرجها ملتحم. ووحد لانه مصدر وصف به.
وقوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } والمعنى إن كل شيء صار حياً، فهو مجعول من الماء. ويدخل فيه الشجر والنبات على التبع. وقال بعضهم: اراد بالماء النطف التى خلق الله منها الحيوان. والاول أصح.
وقوله { أفلا يؤمنون } معناه أفلا يصدقون بما أخبرتهم. وقيل: معناه أفلا يصدقون بما يشاهدونه، من أفعال الله الدالة على أنه المستحق للعبادة لا غير والمختص بها، وانه لا يجوز عليه اتخاذ الصاحبة والولد.
وقرأ ابن كثير وحده { ألم ير الذين كفروا } بغير واو. الباقون "أولم" بالواو. والألف التي قبل الواو، الف توبيخ وتقرير.