التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣١
وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
٣٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٣٣
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ
٣٤
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
٣٥
-الأنبياء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قال المبرد: معنى { أن تميد } أي منع الأرض { أن تميد } أي لهذا خلقت الجبال. ومثله قوله { { أن تضل إحداهما } والمعنى عدة أن تضل أحداهما، كقول القائل: أعددت الخشبة أن يميل الحائل فأدعمه. وهو لم يعدها ليميل الحائط، وانما جعلها عدة، لأن يميل، فيدعم بها.
يقول الله تعالى انا { جعلنا في الأرض رواسي } وهي الجبال، واحدها راسية يقال: رست ترسو رسوّاً إذا ثبتت بثقلها، وهي راسية. كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها { أن تميد بكم } معناه ألا تميد بكم، كما قال
{ { يبين الله لكم أن تضلوا } والمعنى ألا تضلوا. وقال الزجاج: معناه كراهة أن تميد بكم. والميد الاضطراب، بالذهاب فى الجهات، يقال: ماد يميد ميداً، فهو مائد. وقيل: إن الأرض كانت تميد وترجف، رجوف السفينة بالوطئ، فثقلها الله تعالى بالجبال الرواسي - لتمتنع من رجوفها. والوجه فى تثقيل الله تعالى الأرض بالرواسي مع قدرته على امساك الارض أن تميد، ما فيه من المصلحة والاعتبار، وكان ابن الاخشاذ يقول: لو لم يثقل الله الأرض بالرواسي لأمكن العباد أن يحركوها بما معهم من القدر، فجعلت على صفة ما لا يمكنهم تحريكها. وقال قتادة: تميد بهم معناه تمور، ولا تستقرّ بهم.
وقوله { وجعلنا فيها فجاجاً } يعني فى الارض طرقاً، والفج الطريق الواسع بين الجبلين.
وقوله { لعلكم تهتدون } أي لكي تهتدوا فيه الى حوائجكم ومواطنكم، وبلوغ أغراضكم. ويحتمل أن يكون المراد لتهتدوا، فتستدلوا بذلك على توحيد الله وحكمته. وقال ابن زيد: معناه ليظهر شكركم، فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون.
وقوله { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } وانما ذكرها، لأنه أراد السقف، ولو أنث كان جائزاً. وقيل: حفظها الله من أن تسقط على الارض. وقيل: حفظها من أن يطمع احد ان يتعرض لها بنقض، ومن ان يلحقها ما يلحق غيرها من الهدم او الشعث، على طول الدهر. وقيل: هي محفوظة من الشياطين بالشهب التي يرجمون بها.
وقوله { وهم عن آياتها معرضون } اي هم عن الاستدلال بحججها وادلتها، على توحيد الله معرضون.
ثم قال تعالى مخبراً، بأنه { هو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر } واخبر ان جميع ذلك { في فلك يسبحون } فالفلك هو المجرى الذي تجري فيه الشمس والقمر، بدورانها عليه - فى قول الضحاك - وقال قوم: هو برج مكفوف تجريان فيه. وقال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل. والفلك في اللغة كل شيء دائر، وجمعه افلاك قال الراجز:

باتت تناصي الفلك الدوارا حتى الصباح تعمل الاقتارا

ومعنى { يسبحون } يجرون - في قول ابن جريج - وقال ابن عباس { يسبحون } بالخير والشر، والشدة والرخاء. وانما قال { يسبحون } على فعل ما يعقل، لأنه أضاف اليها الفعل الذي يقع من العقلاء، كما قال { { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } وقال { { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } وقال النابغة الجعدي:

تمززتها والديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا

وقوله { كل في فلك يسبحون } أراد الشمس والقمر والنجوم، لأن قوله "الليل" دل على النجوم.
ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) و { ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } أي البقاء دائماً فى الدنيا { أفإن مت فهم الخالدون } اي لم يجعل لهم الخلود، حتى لو مت أنت لبقوا أولئك مخلدين، بل ما أولئك مخلدين. ثم أكد ذلك، وبين بأن قال { كل نفس ذائقة الموت } والمعنى لا بد لكل نفس حية بحياة أن يدخل عليها الموت، وتخرج عن كونها حية. وانما قال { ذائقة } لان العرب تصف كل أمر شاق على النفس بالذوق كما قال
{ { ذق إنك أنت العزيز الكريم } }. وقال الفراء: إذا كان اسم الفاعل لما مضى جازت الاضافة، وإذا كان للمستقبل، فالاختيار التنوين، ونصب ما بعده.
ثم قال تعالى { ونبلوكم } اي نختبركم معاشر العقلاء بالشر والخير، يعني بالمرض والصحة. والرخص والغلاء، وغير ذلك من انواع الخير والشر { فتنة } أي اختباراً مني لكم، وتكليفاً لكم. ثم قال { وإلينا ترجعون } يوم القيامة، فيجازى كل انسان على قدر عمله. ودخلت الفاء في قوله "أفإن" وهي جزاء، وفى جوابه، لان الجزاء متصل بكلام قبله. ودخلت في { فهم } لانه جواب الجزاء، ولو لم يكن فى { فهم } الفاء، كان جائزاً على وجهين:
احدهما - ان تكون مرادة، وقد حذفت.
والآخرى - أن تكون قد قدمت على الجزاء، وتقديره { أفهم الخالدون } إن مت.