التبيان الجامع لعلوم القرآن
قرأ اهل المدينة { مثقال حبة } برفع اللام - ها هنا - وفي القمر. الباقون بنصبها.
من رفع اللام جعل (كان) تامة بمعنى حدث، كما قال { { إلا أن تكون تجارة } ولا خبر لها. ومن نصبه جعل فى { كان } ضميراً ونصب { مثقال } بأنه خبر { كان } وتقديره فلا تظلم نفس شيئاً وان كان الشيء { مثقال حبة من خردل } وانما قال { بها } بلفظ التأنيث والمثقال مذكر، لان مثقال الحبة وزنها، ومثله قراءة الحسن { { يلتقطه بعض السيارة } لان بعض السيارة سيارة. وروي ان مجاهد قرأ { آتينا } ممدوداً بمعنى جازينا بها.
اخبر الله تعالى انه لو مس هؤلاء الكفار { نفحة من عذاب الله } ومعناه لو لحقهم واصابهم دفعة يسيرة، فالنفحة الدفعة اليسيرة، يقال: نفح ينفح نفحاً، فهو نافح، لأيقنوا بالهلاك، ولقالوا { يا ويلنا } اي الهلاك علينا { إنا كنا ظالمين } لنفوسنا بارتكاب المعاصي اعترافاً منهم بذلك. ومعنى { يا ويلنا } يا بلاءنا الذي نزل بنا. وانما يقال استغاثه مما يكون منه، كما يستغيث الانسان بنداء من يرفع به.
ثم قال تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } قال قتادة: معناه نضع العدل في المجازاة بالحق لكل احد على قدر استحقاقه، فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقه، ولا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقه. وقال الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان، يذهب الى انه علامة جعلها للعباد يعرفون بها مقادير الاستحقاق. وقال قوم: ميزان ذو كفتين توزن بها صحف الاعمال. وقال بعضهم: يكون في احدى الكفتين نور، وفي الأخرى ظلمة، فايهما رجح، علم به مقدار ما يستحقه، وتكون المعرفة في ذلك ما فيه من اللطف والمصلحة في دار الدنيا.
وقوله { ليوم القيامة } معناه لأهل يوم القيامة. وقيل فى يوم القيامة.
وقوله { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } معناه أنه لا يضيع لديه قليل الاعمال والمجازاة عليه، طاعة كانت أو معصية { وكفى بنا حاسبين } أي وكفى المطيع أو العاصي بمجازاة الله وحسبه ذلك. وفي ذلك غاية التهديد، لأنه إذا كان الذي يتولى الحساب لا يخفى عليه قليل ولا كثير، كان اعظم. والباء فى قوله { كفى بنا } زائدة. و { حاسبين } يحتمل أن يكون نصباً على الحال أو المصدر - فى قول الزجاج.
ثم اخبر الله تعالى فقال: { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } قال مجاهد وقتادة: هو التوراة التي تفرق بين الحق والباطل. وقال ابن زيد: هو البرهان الذي فرق بين حقه وباطل فرعون، كما قال تعالى { { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } }. وقوله { وضياء } أي وآتيناه ضياء يعني أدلة يهتدون بها. كما يهتدون بالضياء. وآتيناه { ذكراً للمتقين } أي مذكراً لهم، يذكرون الله به. ومن جعل الضياء والذكر حالا للفرقان قال: دخلته واو العطف، لاختلاف الأحوال، كقولك جاءني زيد الجواد والحليم والعالم. وأضافه الى المتقين، لانهم المتنفعون به دون غيرهم.
ثم وصف المتقين بأن قال { الذين يخشون } عذاب الله فيجتنبون معاصيه فى حال السر والغيب. وقال الجبائي: معناه يؤمنون بالغيب الذي أخبرهم به، وهم من مجازاة يوم القيامة { مشفقون } أي خائفون.
ثم اخبر عن القرآن، فقال { وهذا ذكر مبارك } يعني القرآن { أنزلناه } عليك يا محمد. وخاطب الكفار فقال { أفأنتم له منكرون } أي تجحدونه، على وجه التوبيخ لهم، والتقرير، وفى ذلك دلالة على حدوثه، لأن ما يوصف بالانزال وبأنه مبارك يتنزل به، لا يكون قديماً، لان ذلك من صفات المحدثات.