التفاسير

< >
عرض

وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
٧٦
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
٧٧
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
٧٨
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
٨٠
-الأنبياء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ "لنحصنكم" بالنون ابو بكر عن عاصم. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم بالتاء. الباقون بالياء. فمن قرأ بالتاء، فلأن الدروع مؤنثة، فأسند الفعل اليها. ومن قرأ بالياء اضافه الى (لبوس)، وهو مذكر ويجوز ان يكون اسند الفعل الى الله. ويجوز أن يضيفه الى التعليم - ذكره ابو علي - ومن قرأ بالنون اسند الفعل الى الله ليطابق قوله "وعلمناه".
يقول الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) واذكر يا محمد { نوحاً } حين { نادى من قبل } ابراهيم. والنداء الدعاء على طريقة (يا فلان) فأما على طريقة (افعل) و (لا تفعل) فلا يسمى نداء، وإن كان دعاء. والمعنى إذ دعا ربه، فقال: رب، أي يا رب نجني واهلي من الكرب العظيم فقال الله تعالى { فاستجبنا له } اي اجبناه الى ما التمسه { فنجيناه وأهله من الكرب العظيم }. والكرب الغم الذي يحمى به القلب، ويحتمل ان يكون غمه كان لقومه. ويجوز ان يكون من العذاب الذي نزل بهم.
وقوله { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } اي منعناه منهم ان يصلوا اليه بسوء. ومعنى نصرته عليه أعنته على غلبه. ثم اخبر تعالى { إنهم كانوا قوم سوء } فأغرقهم الله اجمعين بالطوفان.
ثم قال واذكر يا محمد { داود وسلميان اذ يحكمان في الحرث إذ } فى الوقت الذي { نفشت فيه غنم القوم } والنفش لا يكون الا ليلا على ما قاله شريح. وقال الزهري: الهمل والنشر بالنهار، والنفش بالليل، والحرث الذى حكاه فيه: قال قتادة: هو زرع وقعت فيه الغنم ليلا، فأكلته. وقيل: كرم قد نبتت عناقيده - في قول ابن مسعود - وشريح. وقيل: ان داود كان يحكم بالغنم لصاحب الكرم. فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله. قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم الى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم الى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى اذا عاد الكرم كما كان دفع كل واحد الى صاحبه - ذكره ابن مسعود - وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقال ابو علي الجبائي: أوحى الله الى سليمان مما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل. ولم يكن ذلك عن اجتهاد، لان الاجتهاد لا يجوز ان يحكم به الانبياء. وهذا هو الصحح عندنا. وقال ابن الاخشاذ، والبلخي والرماني: يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد، لأن رأي النبي افضل من رأي غيره، فكيف يجوز التعبد بالتزام حكم غيره من طريق الاجتهاد، ويمتنع من حكمه من هذا الوجه. والدليل على صحة الاول ان الانبياء (ع) يوحى اليهم، ولهم طريق الى العلم بالحكم، فكيف يجوز أن يعملوا بالظن؟! والأمة لا طريق لها الى العلم بالاحكام فجاز ان يكلفوا ما طريقه الظن؟! على ان عندنا لا يجوز في الأمة ايضاً العمل على الاجتهاد. وقد بينا ذلك في غير موضع. ومن قال: انهما اجتهدا، قال أخطأ داود وأصاب سليمان. وذكروا فى قوله { إذ يحكمان } ثلاثة أوجه:
أحدها - إذ شرعا في الحكم فيه من غير قطع به في ابتداء الشرع.
وثانيها - ان يكون حكمه حكما معلقاً بشرط لم يفعله بعد.
وثالثها - أن يكون معناه طلبا بحكم في الحرث، ولم يبتديا به بعد. ويقوي ما قلناه قوله تعالى "ففهمناها سليمان" يعني علمنا الحكومة فى ذلك سليمان. وقيل: ان الله تعالى { فهم سليمان } قيمة ما أفسدت الغنم.
ثم أخبر تعالى بأنه آتى كلا حكما وعلماً، فدل على ان ما حكم به داود كان بوحي الله، وتعليمه. وقيل: معنى قوله { ففهمناها سليمان } أي فتحنا له طريق الحكومة، لما اجتهد في طلب الحق فيها، من غير عيب على داود فيما كان منه فى ذلك، لأنه اجتهد، فحكم بما أدى اجتهاده اليه.
وقوله { وسخرنا مع داود الجبال } معناه سير الله تعالى الجبال مع داود حيث سار، فعبر عن ذلك بالتسبيح، لما فيها من الآية العظيمة التي تدعو له بتعظيم الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، ولا يجوز وصفه به. وكذلك سخر له الطير، وعبر عن ذلك التسخير بأنه تسبيح من الطير، لدلالته على أن من سخرها قادر لا يجوز عليه العجز، كما يجوز على العباد.
وقوله { وكنا فاعلين } أي وكنا قادرين على ما نريده. وقال الجبائي: اكمل الله تعالى عقول الطير حتى فهمت ما كان سليمان يأمرها به وينهاها عنه، وما يتوعدها به متى خالفت.
وقوله { وكنا لحكمهم شاهدين } انما جمعه فى موضع التثنية، لأن داود وسليمان كان معهما المحكوم عليه، ومن حكم له. فلا يمكن الاستدلال به على أن اقل الجمع اثنان. ومن قال: إنه كناية عن الاثنين، قال: هو يجري مجرى قوله
{ { فإن كان له أخوة } فى موضع فان كان له أخوان. وهذا ليس بشيء، لان ذلك علمناه بدليل الاجماع، ولذلك خالف فيه ابن عباس، فلم يحجب ما قل عن الثلاثة.
وقوله { وعلمناه } يعني داود { صنعة لبوس لكم } اي علمناه كيف يصنع الدرع. وقيل: ان اللبوس - عند العرب - هو السلاح كله، درعاً كان، أو جوشناً، او سيفاً، او رمحاً، قال الهذلي.

ومعي لبوس للبنين كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل

يصف رمحاً. وقال قتادة، والمفسرون: المراد به في الآية الدروع. والاحصان الاحراز، والباس شدة القتال. وقوله { فهل أنتم شاكرون } تقرير للخلق على شكره تعالى على نعمه التي انعم بها عليهم بأشياء مختلفة.