التفاسير

< >
عرض

وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٦
وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ
٨٩
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ
٩٠
-الأنبياء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ يعقوب { فظن ان لن يقدر عليه } بالياء مضمومة. وفتح الدال. الباقون بالنون، وكسر الدال، والمعنيان متقاربان.
يقول الله تعالى إنا ادخلنا هؤلاء الذين ذكرناهم من الانبياء { في رحمتنا } أي في نعمتنا، ومعنى { أدخلناهم في رحمتنا } غمرناهم بالرحمة. ولو قال رحمناهم لما أفاد الاغمار، بل أفاد انه فعل بهم الرحمة، التي هي النعمة.
وقوله { إنهم من الصالحين } معناه إنما ادخلناهم في رحمتنا، لانهم كانوا ممن صلحت أعمالهم، وفعلوا الطاعات، وتجنبوا المعاصي. و { صالح } صفة مدح في الشرع.
ثم قال لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) واذكر { ذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه } والنون الحوت، وصاحبها يونس بن متى، غضب على قومه - فى قول ابن عباس والضحاك - فذهب مغاضباً لهم، فظن ان الله لا يضيق عليه، لأنه كان ندبه الى الصبر عليهم والمقام فيهم من قوله
{ { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق، وقوله { { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يضيق، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك، واكثر المفسرين. وقال الزجاج والفراء: معناه { ظن أن لن نقدر عليه } ما قدرناه. وقال الجبائي: ضيق الله عليه الطريق حتى ألجأه الى ركوب البحر حتى قذف فيه، وابتلعته السمكة. ومن قال: ان يونس (ع) ظن أن الله لا يقدر عليه من القدرة، فقد كفر. وقيل إنما عوتب على ذلك، لأنه خرج مغاضباً لهم قبل أن يؤذن له، فقال قوم: كانت خطيئة، من جهة تأويله أنه يجوز له ذلك. وقد قلنا: انه كان مندوباً الى المقام فلم يكن ذلك محظوراً، وانما كان ترك الأولى. فأما ما روي عن الشعبي وسعيد بن جبير من انه خرج مغاضباً لربه فلا يجوز ذلك على نبي من الانبياء، وكذلك لا يجوز أن يغضب لم عفى الله عنهم إذ آمنوا، لان هذا اعتراض على الله بما لا يجوز في حكمته.
وقوله { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } فالظلمات قيل: إنها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، على ما قاله ابن عباس وقتادة. وقيل: حوت فى بطن حوت، فى قول سالم بن أبي حفصة. وقيل: ان أكثر دعائه كان في جوف الليل فى الظلمات. والأول أظهر في اقوال المفسرين. وقال الجبائي: الغضب عداوة لمن غضب عليه، وبقاؤه في بطن الحوت حياً معجز له. ولم يكن يونس فى بطن الحوت على جهة العقوبة، لان العقوبة عداوة للمعاقب، لكن كان ذلك على وجه التأديب، والتأديب يجوز على المكلف وغير المكلف، كتأديب الصبي وغيره. وقال قوم: معنى قوله { فظن أن لن نقدر } الاستفهام، وتقديره أفظن. وهذا ضعيف، لأنهم لا يحذفون حرف الاستفهام إلا وفي الكلام عوض عنه من (أم) أو غيرها.
وقوله { إني كنت من الظالمين } أي كنت من الباخسين نفسي ثوابها، لو أقمت، لأنه كان مندوباً اليه، ومن قال يجوز الصغائر على الانبياء، قال: كان ذلك صغيرة نقصت ثوابه. فأما الظلم الذي هو كبيرة، فلا يجوزها عليهم إلا الحشوية الجهال، الذين لا يعرفون مقادير الانبياء، الذين وصفهم الله بأنه اصطفاهم واختارهم.
ثم اخبر تعالى انه استجاب دعاءه ونجاه من الغم الذي كان فيه. ووعد مثل ذلك أن ينجي المؤمنين.
وقد قرأ ابو بكر عن عاصم "نجى المؤمنين" بنون واحدة مشددة الجيم. الباقون بنونين. وهي في المصحف بنون واحدة حذف الثانية كراهة الجمع بين المثلين فى الخط، ولأن النون الثانية تخفى مع الجيم، ومع حروف الفم، ولا تظهر، ولذلك ظن قوم أنها ادغمت في الجيم، فقرؤها مدغماً، وليس بمدغم. ولا وجه لقراءة عاصم هذه ولا لقول أبي عبيدة حاكياً عن أبي عمرو: ان النون مدغمة، لانها لا تدغم في الجيم. وقال الزجاج: هذا لحن، ولا وجه لمن تأوله: نجى النجا المؤمنين، كما لا يجوز ضرب زيداً بمعنى ضرب الضرب زيداً. وقال الفراء: هو لحن. وقال قوم - محتجين لأبي بكر - انه أراد فعلا ماضياً، على ما لم يسم فاعله، فاسكن الياء، كما قرأ الحسن
{ { وذروا ما بقي من الربا } أقام المصدر مقام المعفول الذي لا يذكر فاعله، فكذلك نجى النجا المؤمنين، واحتجوا بأن أبا جعفر قرأ { { ليجزي قوماً } في الجاثية على تقدير لنجزي الجراء قوماً قال الشاعر.

ولو ولدت قفيرة جر وكلب لسب بذلك الجر والكلابا

ثم قال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم) واذكر { زكريا إذ نادى ربه } أي دعاه، فقال يا { رب لا تذرني فرداً } أي وحيداً، بل ارزقني ولداً. ثم قال { وأنت خير الوارثين } ومعناه أنت خير من يرث العباد من الأهل والولد، فقال الله تعالى إنا استجبنا دعاءه { وهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } قال قتادة: إنها كانت عقيماً فجعلها الله ولوداً. وقيل: كانت سيئة الخلق، فرزقها الله حسن الخلق. ثم اخبر { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } أي يبادرون فى فعل الطاعات { ويدعون } الله { رغبة } في ثوابه { ورهبة } من عقابه { وكانوا } لله { خاشعين } متواضعين. وقال الجبائي: إجابة الدعاء لا تكون إلا ثواباً. وقال ابن الاخشاذ: يجوز أن تكون استصلاحاً لا ثواباً، ولذلك لا يمتنع أن يجيب الله دعاء الكافر والفاسق. فأما قولهم: فلان مجاب الدعوة، فلا يجوز اطلاقه على الكفار والفساق، لأن فيه تعظيماً وأن له منزلة جليلة عند الله. والامر بخلاف ذلك.