التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١١
لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ
١٢
لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٣
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٤
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ
١٥
-النور

التبيان الجامع لعلوم القرآن

يقول الله تعالى مخاطباً لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) { إن الذين جاؤا بالإفك } يعني الذين أتوا بالافك، وهو الكذب الذي قلب فيه الأمر عن وجهه، واصله الانقلاب، ومنه (المؤتفكات) وأفك يأفك افكاً إذا كذب. لانه قلب المعنى عن حقه الى باطله، فهو آفك، مثل كاذب،
وقوله { عصبة منكم } يعني جماعة منكم، ومنه قوله
{ { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة } ويقال: تعصب القوم إذا اجتمعوا على هيئة، فشد بعضهم بعضاً. والعصبة فى النسب العشيرة المقتدرة، لانه يجمعها التعصب.
وقال ابن عباس: منهم (عبد الله بن أبي بن سلول) وهو الذي تولى كبره، وهو من رؤساء المنافقين. و (مسطح بن اثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش) وهو قول عائشة، وكان سبب الافك ان عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق، وكانت تباعدت لقضاء الحاجة، فرجعت تطلبه، وحمل هودجها على بعيرها ظناً منهم بها أنها فيه، فلما صارت الى الموضع وجدتهم قد رحلوا عنه، وكان صفوان ابن معطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فمر بها، فلما عرفها أناخ بعيره حتى ركبته، وهو يسوقه حتى أتى الجيش بعد ما نزلوا فى قائم الظهيرة. هكذا رواه الزهري عن عائشة.
وقوله { لا تحسبوه شرّاً لكم بل هو خير لكم } خطاب لمن قرب بالافك من عائشة، ومن اغتم لها، فقال الله تعالى لا تحسبوا غم الافك شراً لكم بل هو خير لكم، لان الله (عز وجل) يبرئ ساحته ببراءتها، وينفعها بصبرها واحتسابها، وما ينل منها من الاذى والمكروه الذي نزل بها، ويلزم أصحاب الافك ما استحقوه بالاثم الذى ارتكبوه فى أمرها.
ثم اخبر تعالى فقال { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } أي له جزاء ما اكتسب من الاثم من العقاب.
ثم قال { والذي تولى كبره منهم } يعني (ان ابي بن سلول) تحمل ومعظمه و (كبره) مصدر من معنى الكبير من الامور. قال ابو عبيدة: فرقوا بينه وبين مصدر الكبر فى السنّ، يقال: فلان ذو كبر أي ذو كبرياء. وقرأ ابو جعفر المدني بضم الكاف. الباقون بكسرها، فالكبر بضم الكاف من كبر السن، وهو كبير قومه أي معظمهم، والكبر والعظم واحد. وقيل: دخل حسان على عائشة فانشدها قوله فى بيته:

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم القوافل

فقالت له: لكنك لست كذلك. وقوله { له عذاب عظيم } يعني جزاء على ما اكتسبه من الاثم. وقوله { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } معناه هلا حين سمعتم هذا الافك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كانفسهم خيراً، لان المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الامور، فاذا جرى على أحدهم محنة، فكأنه جرى على جماعتهم، وهو كقوله { { فسلموا على أنفسكم } وهو قول مجاهد، قال الشاعر في (لولا) بمعنى (هلا):

تعدون عقر النيب أفضل مجدلكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

اي فهلا تعدون قتل الكمي. وقوله تعالى { وقالوا هذا إفك مبين } معناه وهلا قالوا هذا القول كذب ظاهر. ثم قال تعالى { لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء } اى هلا جاؤا على ما قالوه ببينة أربعة من الشهداء { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك } الذين قالوا هذا الافك { هم الكاذبون } عند الله، والمعنى انهم كاذبون فى عيبهم، فمن جوز صدقهم، فهو رادّ لخبر الله تعالى، فالآية دالة على كذب من قذف عائشة، وافك عليها. فأما في غيرها إذا رماها الانسان، فانا لا نقطع على كذبه عند الله، وإن اقمنا عليه الحد، وقلنا هو كاذب فى الظاهر، لانه يجوز أن يكون صادقاً عند الله، وهو قول الجبائي.
ثم قال تعالى على وجه الامتنان على المؤمنين { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم } جزاء على خوضكم في قصة الافك وافاضتكم فيه. وقيل فى الآية تقديم وتأخير، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم في ما افضتم فيه عذاب عظيم في الدنيا والاخرة.
وقوله { إذ تلقونه بألسنتكم } تقديره: لمسكم عذاب عظيم حين تلقونه بالسنتكم، ومعناه برواية بعضكم عن بعض لتشييعه - فى قول مجاهد - وروي عن عائشة أنها قرأت { تلقونه } من ولق الكذب، وهو الاستمرار على الكذب، ومنه: ولق فلان في السير إذا استمر به، ويقال. فى الولق من الكذب: الالق والألق، تقول: ألقت وانتم تألقونه. أنشد الفراء:

من لي بالمرر واليلامق صاحب أدهان وألق آلق

فتح الالف من ادهان، وقال الراجز:

إن الحصين زلق وزملق جاءت به عيس من الشام تلق

وينشد ايضاً:

ان الحصين زلق وزملق جاءت به عنس من الشام تلق
مجوع البطن كلاليم الحلق

وقوله { تقولون بأفواكم ما ليس لكم به علم } من وجه الافك { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } اي تظنونه حقيراً وهو عند الله عظيم لأنه كذب وافتراء.