التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً
٢١
يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً
٢٢
وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً
٢٣
أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً
٢٤
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً
٢٥
-الفرقان

التبيان الجامع لعلوم القرآن

حكى الله تعالى عن الكفار الذين لا يرجون لقاء ثواب الله، ولا يخافون عقابه أنهم قالوا ما ذكره. والرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه، تقول: رجا يرجو رجاء وارتجى ارتجاء، وترجى ترجياً، ومثل الرجاء الطمع والامل. والمعنى لا يرجون لقاء جزائنا، وإذا استعملوا الرجاء مع النفي أرادوا به الخوف، كقوله { { لا ترجون لله وقاراً } وهي لغة تهامة وهذيل. واللقاء المصير الى الشيء من غير حائل ولهذا صح لقاء الجزاء من الثواب والعقاب، لان العباد يصيرون اليه فى الآخرة وعلى هذا يصلح أن يقال: لا بد من لقاء الله تعالى.
وقوله { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } معناه هلا أنزل الملائكة لتخبرنا بأن محمداً نبي { أو نرى ربنا } فيخبرنا بذلك. قال الجبائي: وذلك يدل على انهم كانوا مجسمة، فلذلك جوزوا الرؤية على الله التي تقتضي التشبيه.
ثم اقسم تعالى فقال { لقد استكبروا } بهذا القول { في أنفسهم } أي طلبوا الكبر والتجبر بغير حق، تقول: استكبر استكباراً { وعتواً } بذلك أي طغوا به { عتوّاً كبيراً } والعتو الخروج الى أفحش الظلم.
وقوله { يرم يرون الملائكة } يجوز أن يكون المراد به اليوم الذي تقبض فيه أرواحهم، ويعلمون أين مستقرهم. ويجوز أن يكون يوم القيامة { لا بشرى يومئذ للمجرمين } أي لا بشرى لهم في ذلك اليوم. قال الفراء: ليس { اليوم } من صلة { بشرى } ولا منصوباً به، بل اضمرت (الفاء) كقولك: أما اليوم، فلا مال لك. وقال الزجاج: يجوز على تقدير لا بشرى تكون للمجرمين يوم يرون الملائكة، ويكون { يومئذ } مؤكداً لـ { يوم }، ولا يكون منصوباً بـ { لا بشرى } لأن ما يتصل بـ (لا) لا يعمل فيما قبلها، لكن لما قيل: { لا بشرى للمجرمين } بين في أي يوم ذلك فكأنه قال يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة، وهو يوم القيامة و { المجرمين } معناه الذين أجرموا وارتكبوا المعاصي { ويقولون حجراً محجوراً } حراماً محرّماً. وقال قتادة، والضحاك: هو من قول الملائكة يقولون لهم: حراماً محرماً عليكم البشرى. وقال مجاهد وابن جريج: هو من قول المجرمين، كما كانوا يقولون فى الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل، قالوا { حجراً محجوراً } أي حراماً محرماً دماؤنا. واصل الحجر الضيق، يقال: حجر عليه يحجر حجراً إذا ضيق. والحجر الحرام لضيقه بالنهي عنه، قال المتلمس:

حنت الى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس

وقال آخر:

فهممت ان ألقي اليها محجراً ولمثلها يلقى اليه المحجر

أي حراماً. ومنه حجر القاضي عليه يحجر. وحجر فلان على أهله. ومنه حجر الكعبة، لانه لا يدخل اليه في الطواف، وانما يطاف من ورائه، لتضيقه بالنهي عنه وقوله { { لذي حجر } أي لذي عقل، لما فيه من التضييق في القبيح، والحجر الانثى من الخيل، ومنه الحجرة، وحجر الانسان.
وقوله { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } قال البلخي: معناه قدم أحكامنا بذلك. وقال مجاهد: معنى { قدمنا } عمدنا قال الراجز:

وقدم الخوارج الضلال الى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال

وفي الكلام بلاغة حسنة، لان التقدير: كان قصدنا اليه قصد القادم على ما يكرهه، ما لم يكن رآه قبل فيغيره. والهباء غبار كالشعاع، لا يمكن القبض عليه وقال الحسن ومجاهد وعكرمة: هو غبار يدخل الكوة فى شعاع الشمس. وقال عكرمة: هو رهج الخيل. وقال ابن عباس وغيره: هو الماء المهراق.
ثم قال تعالى { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } ومعناه: إن الذين يحصلون فى الجنة - مثابين منعمين فى ذلك اليوم - مستقرهم خير من مستقر الكفار في الدنيا والآخرة. وانما قال ذلك على وجه المظاهرة، بمعنى أنه لو كان لهم مستقر خير ومنفعة، لكان هذا خيراً منه، { وأحسن مقيلا } معناه أحسن موضع قائلة، وإن لم يكن في الجنة نوم، إلا أنه من تمهيده يصلح للنوم، لانهم خوطبوا بما يعرفون، كما قال
{ { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } على ما اعتادوه. وقال البلخي: معنى { مستقراً وأحسن مقيلاً } انه خير في نفسه، وحسن فى نفسه، لا انه أفضل من غيره، كما قال { { وهو أهون عليه } أي هو هين. وقال قوم: معنى { خير مستقراً وأحسن } أي انفع من مستقرهم. وقال ابن عباس وابراهيم وابن جريج: لانه يفرغ من حسابهم الى وقت القائلة.
وقوله { يوم تشقق السماء بالغمام } أي عن الغمام، وهو كقولهم: رميت بالقوس، وعن القوس بمعنى واحد.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر { تشقق } مشددة ومعناه تتشقق، فادغم احدى التائين في الشين لقرب مخرجيهما. ومن قرأ بالتخفيف أراد ايضاً ذلك. ولكنه حذف أحدى التائين، وهي تاء (تفعّل) لان الأخرى علامة الاستقبال، لا يجوز حذفها. وقال أبو علي الفارسي: المعنى { تشقق السماء } وعليها الغمام. وفى التفسير: انه يتشقق سماء سماء. وقال الفراء: تتشقق السماء عن الغمام الأبيض. وقرأ الباقون بالتخفيف. وقرأ ابن كثير { وننزل الملائكة } بنونين. وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة.
والمعني بذلك الاخبار عن هول ذلك اليوم وعظم شدائده، وان الملائكة تنزل للمؤمنين بالاكرام والاعظام، وللكافرين بالاستخفاف والاهانة.
ومن قرا بالنونين أراد ان الله المخبر بذلك عن نفسه. ومن قرأ بنون واحدة فعلى ما لم يسم فاعله. والمعنيان واحد. والتشديد أجود لقوله { تنزيلاً } والآخر يجوز، كما قال
{ { وتبتل إليه تبتيلاً } وقوله { { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } فجاء المصدر على غير الفعل وذلك سائغ جيد.