التبيان الجامع لعلوم القرآن
معنى تبارك: تقدس وجل، بما لم يزل عليه من الصفات، ولا يزال كذلك، ولا يشاركه فيها غيره. وأصله من بروك الطير على الماء، فكأنه قال: ثبت فيما لم يزل ولا يزال الذي نزل الفرقان على عبده. وقال ابن عباس: تبارك (تفاعل) من البركة، فكأنه قال ثبت بكل بركة او حل بكل بركة. وقال الحسن: معناه الذي تجيء البركة من قبله، والبركة الخير الكثير. والفرقان هو القرآن، سمي فرقاناً لأنه يفرق به بين الصواب والخطأ، والحق والباطل فى امور الدين، بما فيه من الوعظ والزجر عن القبائح والحث على افعال الخير.
ثم بين تعالى انه انما نزل هذا القرآن، وغرضه أن يكون نذيراً للعالمين، أي مخوفاً وداعياً لهم الى رشدهم، وصارفاً لهم عن غيهم وضلالتهم، يقال: أنذره إنذاراً إذا دعاه الى الخير، بأن يخوفه من تركه: إذا كان غافلا عنه، وقال ابن زيد: النذير هو النبي (صلى الله عليه وسلم). وقال آخرون: هو القرآن.
ثم وصف تعالى { الذي نزل الفرقان } بأنه { الذي له ملك السماوات والأرض } والتصرف فيهما، بسعة مقدوره بسياستها. وانه { لم يتخذ ولداً } كما يدعيه النصارى فى أن المسيح ابن الله، ويزعم جماعة من العرب أن الملائكة بنات الله. وأنه ليس له شريك فى الملك، بل هو المالك لجميع ذلك وحده، وانه { خلق كل شيء } وقيل فى معناه قولان:
احدهما - ان كل شيء يطلق عليه اسم مخلوق، فانه خلقه، لأن أفعالنا لا يطلق عليها اسم الخلق حقيقة، لان الخلق يفيد الاختراع، وانما يسمونها بذلك مجازاً.
والثاني - انه لا يعتد بما يخلقه العبد فى جنب ما خلقه الله، لكثرة ذلك وقلة ما يخلقه العبد.
ويحتمل ان يكون المراد قدّر كل شيء، لان أفعال العباد مقدرة لله، من حيث بين ما يستحق عليها فاعلها من الثواب والعقاب أو لا يستحق شيئاً من ذلك. ويقوي ذلك قوله { فقدره تقديراً } لان المعنى فيه، وكل شيء على مقدار حاجتهم اليه وصلاحه لهم.
ثم اخبر تعالى عن الكفار، فقال { واتخذوا من دون الله آلهة } من الاصنام والاوثان، ووجهوا عبادتهم اليها من دون الله. ثم وصف آلهتهم بما ينبئ أنها لا تستحق العبادة، بأن قال { لا يخلقون شيئاً } ولا يقدرون عليه، وهم مع ذلك مخلوقون، ومصرفون، وانهم { لا يملكون } أي لا يقدرون { لأنفسهم } على ضرّ ولا على نفع { ولا يملكون } أي لا يقدرون على موت، ولا على حياة، ولا على بعث بعد الموت. والنشور هو البعث بعد الموت، يقال: نشر الميت، فهو ناشر نشوراً، وانشره الله انشاراً، ومنه قوله { { ثم إذا شاء أنشره } وجميع ذلك يختص الله بالقدرة عليه، والعبادة تستحق بذلك، لانها أصول النعم، ثم أخبر عن الكفار بأنهم يقولون: ليس هذا القرآن الذي أنزلناه { إلا إفك } يعني كذب افتعله النبي (صلى الله عليه وسلم) { وأعانه عليه قوم آخرون } قال الحسن: قالوا أعانه عليه عبد حبشي يعني الحضرمي. وقال مجاهد: قالوا أعانه عليه اليهود.
ثم حكى تعالى عنهم بأنهم قالوا ذلك و { جاؤا } في هذا القول { ظلماً وزوراً } أي جاؤا بظلم، فلما حذف الباء نصبه أي انهم أضافوه الى غير من صدر عنه، وكذبوا فيه.
وحكى عنهم انهم قالوا أيضاً: هذا القرآن { أساطير الأولين } ورفع { أساطير } بأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره هذا أساطير الأولين. قال ابن عباس: الذي قال ذلك النضر بن الحارث بن كلدة، يعني اخبار قد سطرها الأولون من الأمم اكتتبها هو، وانتسخها { فهي تملى عليه } حتى ينسخها { بكرة وأصيلاً } يعني غداة وعشياً. والاصيل العشي، لأنه أصل الليل وأوله. ومعناه: إنه يقرأ عليه على هوى النفس، فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يقول لهم، تكذيباً لقولهم { قل أنزله } يعني القرآن { الذي يعلم السر } يعني الخفايا { في السماوات والأرض } والمعنى انه أنزله على ما يعلم من المصلحة وبواطن الأمور وخفاياها، لا على ما تقتضيه أهواء النفوس وشهواتها. وقال الجبائي: السر - ها هنا - الغيب. والسر اخفاء المعنى فى القلب اسر اليه إسراراً أي ألقى اليه ما يخفيه فى قلبه، وساره مسارة وسراراً: إذا اخفى ما يلقيه اليه من السر عن غيره.
وقوله { إنه كان غفوراً } معناه الذي يعلم السر في السموات والارض لا يعاجلهم بالعقوبة، بل يستر عليهم، وهكذا كان على من تقدم من الكفار والعصاة { رحيماً } أي منعماً عليهم.