التفاسير

< >
عرض

قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ
١١١
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١١٢
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ
١١٣
وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٤
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
١١٥
قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ
١١٦
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
١١٧
فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٨
فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
١١٩
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ
١٢٠
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
١٢١
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٢
-الشعراء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ يعقوب { واتباعك } على الجمع. الباقون { واتبعك } على الفعل الماضي قال الزجاج: من قرأ على الجمع فقراءته جيدة، لان الواو (واو) الحال، واكثر ما يدخل على الاسماء. تقول جئتك وأصحابك بنو فلان، وقد يقولون: وصحبك بنو فلان، واكثر ما يستعملونه مع (قد) في الفعل،
حكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح حين دعاهم إلى الله وخوفهم من معصيته: انصدقك فيما تدعونا اليه وقد اتبعك الارذلون؟! يعني السفلة واوضاع الناس. والرذل الوضيع، ونقيض الرذيلة الفضيلة وجمعه الرذائل. وقيل: انهم نسبوهم إلى صناعات دنيئة، كالحياكة والحجامة. وانهم مع ذلك اهل نفاق ورذالة، فأنفوا من اتباعه لما اتبعوه هؤلاء، ولم يجز من نوح أن يقبل قول هؤلاء فيهم، لانهم كفار يعادونهم، فلا تقبل شهادتهم. ويجوز أيضاً ان يكونوا لما آمنوا تابوا من قبيح ما عملوا، لأن الايمان يجبّ الخطايا، ويوجب الاقلاع عنها. ولم يجز استصلاح هؤلاء باقصاء من آمن، كما لا يجوز استصلاحهم بفعل الظلم، لان في ذلك اذلالا للمؤمنين، وذلك ظلم لهم، لا يجوز أن يفعل بأهل الايمان، لأنه قبيح.
ومن قرأ - على الجمع - أراد ان الذين اتبعوك هم الارذلون.
ومن قرأ على الفعل أراد: تبعك من هذه صفته.
فقال لهم نوح (ع): لم أطردهم { وما علمي بما كانوا يعملون } فيما مضى، لأني ما كلفت ذلك، وانما أمرت بأن ادعوهم إلى الله، وقد اجابوني اليه، وليس حسابهم الا على ربي الذي خلقني وخلقهم لو علمتم ذلك وشعرتموه، وليس أنا بطارد المؤمنين، لاني لست الا نذيراً مخوفاً من معصية الله مبين لطاعته، داع اليه.
و (الطرد) ابعاد الشيء على وجه التنفير، طرده يطرده، واطرده جعله طريداً، واطرد في الباب استمر في الذهاب كالطريد، وطارده مطاردة وطراداً.
فقال له قومه عند ذلك { لئن لم تنته } وترجع عما تقوله، وتدعو اليه { يا نوح لتكونن من المرجومين } بالحجارة، وقيل: من المرجومين بالشتم، فالرجم الرمي بالحجارة، ولا يقال للرمي بالقوس رجم، ويسمى الشتوم مرجوماً لانه يرمى بما يذم به. والانتهاء بلوغ الحد من غير مجاوزة إلى ما وقع عنه النهي. وأصل النهاية بلوغ الحد، والنهي الغدير، لانتهاء الماء اليه.
فقال نوح عند ذلك يا رب { إن قومي كذبون } وانما قال ذلك مع أن الله تعالى عالم بأنهم كذبوه، لأنه كالعلة فيما جاء بعده، فكأنه قال { افتح بيني وبينهم فتحاً } لانهم كذبوني، إلا انه جاء بصيغة الخبر دون صيغة العلة. وإذا كان على معنى العلة حسن أن يأتي بما يعلمه المتكلم والمخاطب. ومعنى { افتح بيني وبينهم فتحاً } احكم بيننا بالفعل الذي فيه نجاتنا، وهلاك عدوّنا وعامل كل واحد منا بما يستحقه، يقال للحاكم: الفتاح، لانه يفتح وجه الأمر بالحكم الفصل، ويتقرر به الأمر على أداء الحق، فقال الله تعالى له مجيباً لدعائه { فأنجيناه ومن معه } من المؤمنين { في الفلك } يعنى السفن، يقال شحنه يشحنه شحناً فهو شاحن إذا ملأه بما يسد خلاءه، وشحن الثغر بالرجال. ومنه الشحنة، قال الشاعر، في الفتح بمعنى الحكم:

ألا ابلغ بني عصم رسولا فاني عن فتاحتكم غني

والفلك السفن يقع على الواحد والجمع. ثم اخبر تعالى انه لما أنجى نوحاً واصحابه اغرق الباقين من الكفار بعد ذلك، واهلكهم.
ثم قال تعالى: إن فيما اخبرنا به من قصة نوح وإهلاك قومه لآية واضحة على توحيد الله، وإن كان اكثرهم لا يؤمنون، ولا يعتبرون به. وقيل: إن قوله { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } في عدة مواضع ليس بتكرير وانما هو ذكر آية في قصة نوح، وما كان من شأنه مع قومه بعد ذكر آية فيما كان من قصة ابراهيم وقومه، وذكر قصة موسى وفرعون فيما مضى، فبين أنه إنما ذكر ذلك لما فيه من الآية الباهرة، وكرر { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } لان المعنى انه { العزيز } في الانتقام من فرعون وقومه { الرحيم } في نجاة موسى ومن معه من بني اسرائيل، وذكر - ها هنا - { العزيز } في إهلاك قوم نوح بالغرق الذي طبق الأرض { الرحيم } في إنجائه نوحاً ومن معه في الفلك.
والعزيز القادر الذي تتعذر مما نعته لعظم مقدوراته، فصفة (عزيز) وإن رجعت إلى معنى قادر، فمن هذا الوجه ترجع، ولا يوصف بالعزيز مطلقاً الا الله، لانها تفيد معنى قادر، ولا يقدر أحد على ممانعته. والله تعالى قادر أن يمنع كل قادر سواه. ومعنى وصفه بانه عزيز مبالغة من ثلاثة أوجه: احدها - لانه بزنة (فعيل). والثاني - انه لا يوصف به مطلقاً سواه. والثالث - لما فيه من التعريف بالالف واللام.