التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ
٦
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
٧
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨
يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٩
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ
١٠
إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١
-النمل

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل الكوفة { بشهاب قبس } منون غير مضاف جعلوا (قبساً) صفة للشهاب على تقدير منور. الباقون بالاضافة على تقدير (نار).
يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه محمد صلى الله عليه وآله { انك } يا محمد { لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } أي انك لتعطى لأن الملك يلقيه اليه من قبل الله تعالى، من عند حكيم بصير بالصواب من الخطاء في تدبير الامور بما يستحق به التعظيم. وقد يفيد (الحكيم) العامل بالصواب المحكم للامور المتقن لها. وعليم بمعنى عالم إلا أن فيه مبالغة. وقال الرماني هو مثل سامع وسميع، فوصفنا له بأنه عالم يفيد أن له معلوماً، كما أن وصفه بأنه سامع يفيد بأن له مسموعاً. ووصفه بأنه عليم يفيد أنه متى صح معلومه. فهو عليم به، كما أن (سميعاً) يفيد إنه متى وجد مسموع لا بد أن يكون سامعاً.
وقوله { إذ قال موسى لأهله } قال الزجاج: العامل في إذ (اذكر) وهو منصوب به. وقال غيره: هو منصوب بـ (عليم) اذ قال اني آنست ناراً. فالايناس الاحساس بالشيء من جهة ما يؤنس آنست كذا، أؤنسه ايناساً وما آنست به، فقد أحسست به، مع سكون نفسك اليه { سآتيكم منها بخبر } يعني بمن يدل على الطريق ويهدينا اليه، لانه كان قد ضل { أو آتيكم بشهاب قبس } قيل: لانهم كانوا قد أصابهم البرد، وكان شتاء فلذلك طلب ناراً. والشهاب نور كالعمود من النار، وجمعه شهب. وقيل للكوكب الذي يمتد وينقض شهاب، وجمعه شهب، وكل نور يمتد مثل العمود يسمى شهاباً، والقبس القطعة من النار قال الشاعر:

في كفه صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس

ومنه قيل اقتبس النار اقتباساً أي أخذ منها شعلة، واقتبس منه علماً أي اخذ منه نوراً يستضيء به كما يستضيء بالنار { لعلكم تصطلون } معناه، لكي تصطلوا. ومعناه لتدفئوا، والاصطلاء التدفي بالنار، وصلى النار يصلي صلا إذا لزمها، فاصله اللزوم. وقيل الصلاة منه للزوم الدعاء فيها. والمصلي الثاني بعد السابق للزومه صلو السابق. وإنما قال لامراته { لعلي آتيكم } لانه أقامها مقام الجماعة في الانس بها والسكون اليها في الامكنة الموحشة. ويجوز أن يكون على طريق الكناية على هذا التأويل.
وقوله { فلما جاءها } معناه جاء النار { نودي أن بورك من في النار ومن حولها } وقيل في معناه قولان:
احدهما - بورك نور الله الذي في النار، وحسن ذلك، لانه ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار. في قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والحسن.
الثاني - الملائكة الذين وكلهم الله بها على ما يقتضيه. { ومن حولها } - في قول ابي علي الجبائي - ولا خلاف أن الذين حولها هم الملائكة الذين وكلوا بها. و { سبحان الله رب العالمين }.
وقوله { أن بورك } يحتمل أن يكون نصباً على نودي موسى بأن بورك. ويحتمل الرفع على نودي البركة، والبركة ثبوت الخير النامي بالشيء. قال الفراء العرب تقول: بارك الله، وبورك فيك.
وقوله { إنه أنا الله العزيز الحكيم } معناه ان الله قال لموسى ان الذي يكلمك هو الله العزيز القادر الذي لا يغالب، الحكيم في افعاله، المئزه من القبائح. قال الفراء: الهاء في قوله { إنه } عماد، ويسميها البصريون إضمار الشأن والقصة. ثم أراد أن يبين له دلالة يعلم بها صحة النداء، فقال { والق عصاك } من يدك، وفي الكلام حذف، وهو أنه القى عصاه وصارت حية { فلما رآها تهتز كأنها جان } وهي الحية الصغيرة مشتق من الاجتنان، وهو الاستتار، وقال الفراء: هي حية بين الصغيرة والكبيرة، قال الراجز:

يرفعهن بالليل إذا ما أسد فا أعناق جان وهاماً رجفاً

ووصف العصا في هذا الموضع { كأنها جان } وفى الشعراء بأنها ثعبان، وهي الحية الكبيرة، لانها جمعت صفة الجان في اهتزازه وسرعة حركته مع انه ثعبان في عظمه، ولذلك هاله فـ { ولى مدبراً }. وقيل انها أول شيء صارت جاناً ثم تدرجت إلى ان صارت ثعباناً، وهم يشاهدونها، وذلك أعظم في الاعجاز. وقيل: ان الحالين مختلفان، لان الحال التي صارت فيها جاناً هي الحال التي خاطبه الله في أول ما بعثه نبياً، والحال التي صارت ثعباناً هي الحال التي لقي فرعون فيها. فلا تنافي بينهما على حال.
وقوله { ولم يعقب } معناه ولم يرجع - في قول قتادة - وقال الجبائي معناه لم يرجع على عقبيه. والمعاقبة ذهاب واحد ومجيء آخر على وجه المناوبة. وانما وّلى منها موسى بالبشرية، لا انه شك في كونها معجزة له ولا يضره ذلك.
وقوله { يا موسى لا تخف } نداء من الله تعالى لموسى وتسكين منه، ونهي له عن الخوف. وقال له انك مرسل و { لا يخاف لدي المرسلون } لانهم لا يفعلون قبيحاً، ولا يخلون بواجب، فيخافون عقابه عليه، بل هم منزهون عن جميع ذلك.
وقوله { إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء } صورته صورة الاستثناء، وهو منقطع عن الاول وتقديره لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح، ثم بدل حسناً بعد سوء، بأن تاب من القبيح، وفعل الحسن، فانه يغفر له. وقال قوم: هو استثناء متصل وأراد من فعل صغيرة من الانبياء. فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا - ذكره الحسن - وهذا تأويل بعيد، لان صاحب الصغيرة لا خوف عليه أيضاً لوقوعها مكفرة. والاستثناء وقع من المرسلين الذين لا يخافون، فالاول هو الصحيح.
وقوله { ثم بدل حسناً بعد سوء } معناه ندم على ما فعله من القبيح، وتاب منه وعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، فان من تلك صورته، فان الله يغفر له ويستر عليه لانه رحيم. وقيل: المعنى { لا يخاف لدي المرسلون } انما الخوف على من سواهم { إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء } قال الجبائي: في الآية دلالة على انه يسمى الحسن حسناً قبل وجوده وبعد تقضيه، وكذلك القبيح، وهذا إنما يجوز على ضرب من المجاز، دون الحقيقة، لان كون الشيء حسناً أو قبيحاً بقيد حدوثه على وجه لا يصح في حال عدمه، وانما سمي بذلك بتقدير أنه متى وجد كان ذلك، وقال قوم { إلا } بمعنى الواو، فكأنه قال اني لا يخاف لدي المرسلون، ولا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء، فاني أغفر له.