التفاسير

< >
عرض

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
-آل عمران

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى، واللغة، والاعراب:
قال الحسن: المعني بقوله: { ضربت عليهم الذلة } اليهود أذلهم الله عز وجل، فلا عز لهم ولا منعة، وأدركتهم هذه الأمة. وإن المجوس لتجبيهم الجزية { وضربت } مأخوذ من الضرب، وإنما قيل ضربت، لأنها ثبتت عليهم كما ثبتت بالضرب كما أخذت منه الضريبة، لأنها تثبت على صاحبها كما تثبت الضرب. وقوله: { أينما ثقفوا } أي أينما وجدوا، يقال: ثقفته أي وجدته، ولقيته. فان قيل: كيف جاز عقابهم على ما لم يفعلوه من قتل الانبياء. وإنما فعله أسلافهم دونهم. قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - أنهم عوقبوا على رضاهم بذلك. وأجرى عليهم صفة القتل لعظم الجرم في رضاهم به، فكأنهم، فعلوه على نحو { يذبح أبناءهم } وإنما أمر به.
والثاني - أن تكون الصفة تعم الجميع، فيدخلوا في الجملة ويجري عليهم الوصف على التغليب كما يغلب المذكر على المؤنث إذا اجتمعا، فكذلك غلب القاتل على الراضي. وقوله: { إلا بحبل من الله } فالحبل هو العهد من الله، وعهد من من الناس على وجه الذمة، وغيرها من وجوه الأمان في قول ابن عباس، والحسن ومجاهد، وقتادة، والسدي، والربيع. وسمي العهد حبلا، لأنه يعقد به الأمان كما يعقد بالحبل من حيث يلزم به الشيء كما يلزم بالحبل. وقال الاعشى:

فاذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى اليك حبالها

والعامل في الباء من قوله { إلا بحبل من الله } يحتمل أن يكون العامل محذوفا والمعنى إلا أن تعتصموا بحبل من الله على قول الفراء وأنشد:

رأتني بحبليها فصدت مخافة وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق

أراد رأتني أقبلت بحبليها فحذف العامل في الباء وقال آخر:

قريب الخطو يحسب من رآني ولست مقيداً أني بقيد

قال الرماني، على بن عيسى ما ذكره الفراء ضعيف من وجهين:
أحدهما - حذف الموصول وذلك لا يجوز عند البصريين في شيء من الكلام لأنه إذا احتاج إلى صلة تبين عنه فالحاجة إلى البيان عنه بذكره أشد. وإنما يجوز حذف الشيء للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دل دليل عليه لحذف مع صلته، لأنه معها بمنزلة شيء واحد. والوجه الآخر أن الكلام إذا صح معناه من غير حذف لم يجز تأويله على الحذف. وقوله { إلا بحبل } قيل في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما - أنه منقطع، لأن الدلالة لازمة لهم على كل حال، فيجري مجرى قوله:
{ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } فعامل الاعراب موجود والمعنى على الانقطاع. ومثله { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلا سلاماً } وكل انقطاع فيه فانما هو لازالة الايهام الذي فيه يلحق الكلام فقوله: { لا يسمعون فيها لغواً } قد يتوهم أنه من حيث لا يسمعون فيها كلاماً، فقيل لذلك { إلا قيلا سلاماً } وكذلك { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } قد يتوهم أنه لا يقتل مؤمن مؤمناً على وجه، فقيل لذلك { إلا خطأ }. وكذلك { ضربت عليهم الذلة } قد يتوهم أنه من غير جواز موادعة، فقيل إلا بحبل من الله.
الثاني - أن الاستثناء متصل، لأن عز المسلمين عز لهم بالذمة، وهذا لا يخرجه من الذلة في أنفسهم. وقوله: { وباؤا بغضب من الله } أي رجعوا بغضب الله الذي هو عقابه ولعنه. وقوله: { وضربت عليهم المسكنة } قيل اريد بالمسكنة الذلة لأن المسكين لا يكون إلا ذليلا فسمي الذليل مسكيناً. وقيل، لأن اليهود أبداً يتفاقرون وان كانوا أغنياء لما رماهم الله به من الذلة. وقد بينا فيما تقدم أن قوله:
{ ويقتلون الأنبياء بغير حق } لا يدل على أن قتلهم يكون بحق وإنما المراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، كما قال { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به } والمراد ان ذلك لا يكون إلا بغير برهان وكقول امرىء القيس:

على لاحب لا يهتدى بمناره

ومعناه لا منار هناك فيهتدى به وقوله: { يعتدون } قد بينا فيما تقدم معنى الاعتداء وهو أن معناه تجاوز الحد مأخوذ من العدوان.