التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٠
-آل عمران

التبيان الجامع لعلوم القرآن

في هذه الآية دلالة على وجوب النظر والفكر، والاعتبار بما يشاهد من الخلق والاستدلال على الله تعالى، ومدح لمن كانت صفته هذه، ورد على من أنكر وجوب ذلك، وزعم أن الايمان لا يكون إلا تقليداً وبالخبر، لأنه تعالى أخبر عما في خلق السماوات والارض، واختلاف الليل والنهار من الدلالات عليه وعلى وحدانيته، لأن من فكر في السماوات وعظمها وعجائب ما فيها من النجوم والافلاك، ومسير ذلك على التقدير الذي تسير عليه، وفكر في الارض وما فيها من ضروب المنافع، وفي اختلاف الليل والنهار ومجيئهما بالأوقات والازمنة التي فيها المصالح، واتساق ذلك وانتظام بعضها إلى بعض، وحاجة بعضها إلى بعض حتى لو عدم شيء منه لم يقم ما سواه [مقامه] علم أن ذلك لا يكون إلا من مدبر قادر عليم حكيم واحد، لأنه لو كان قادراً، ولم يكن عالماً بالعواقب لما أغنت القدرة شيئاً، ولو كان عالماً غير حكيم في فعله لما أغنى العلم شيئاً، ولو كانا اثنين ما انتظم تدبير، ولا تم خلق، ولعلا بعضهم على بعض، كما قال تعالى: { { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فكيف ينسب إلى الفقر من كان جميع ما في السماوات والاض بيده، أم كيف يكون غنياً من كان رزقه بيد غيره إذا شاء رزقه وإذا شاء حرمه، ويدل على أن خالق الجسم لا يشبهه، لأنه لو أشبهه لكان محدثاً مثله، ويدل على أنه قديم، لأنه لو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث ولأدى ذلك إلى ما لا يتناهى ويدل أيضاً على أنه قادر على جميع الاجناس، لأنه من قدر على الجسم يقدر على سائر الاجناس، ووجه الدلالة من خلق السماوات والارض على الله هو ان الانسان إذا فكر ورأى عظمها، وثقل الارض ووقوفها على غير عمد يقلها، وحركة السماوات حولها لا على شيء يدعمها، علم أن الممسك لذلك هو الذي لا يشبه الاجسام ولا المحدثات، لأنه لو اجتمع جميع الخلق على أن يمسكوا جسما خفيف المقدار، ويقلوه في الجو من غير أن يدعموه لما قدروا عليه، فعلم حينئذ ان الذي يقدر عليه مخالف لجميع الاشياء وعلم أيضاً أنها لو كانت السماوات والارض معتمدة على غيرها لكان ذلك الغير يحتاج إلى ما يعتمد عليه وفي ذلك اثبات ما لا يتناهى من الاجسام، وذلك محال فهذا أحد وجوه دلالة السماوات والارض، وهو أحد ما قال { إن في ذلك لآيات لأولي الألباب } ووجه الدلالة من اختلاف الليل والنهار هو أن جميع الخلق لو اجتمعوا على أن يأتوا بالليل بدلا من النهار، أو النهار بدلا من الليل أو ينقصوا، أو يزيدوا من أحدهما في الآخر لما قدروا عليه، كما قال: { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } وقوله: { لأولي الألباب } معناه لذوي العقول. واللب: العقل سمي به لأنه خير ما في الانسان واللب من كل شيء خيره، وخالصه. فان قيل: فما وجه الاحتجاج بخلق السماوات [والأرض] على الله ولم يثبت بعد انها مخلوقة قيل عند ثلاثة أجوبة:
أولها - على تقدير اثبات كونها مخلوقة قبل الاستدلال به لأن الحجة به قامت عليه من حيث أنها لم تنفك من المعاني المحدثة.
الثاني - أن الغرض ذكر ما يوجب صحة الذي تقدم ثم يترقى من ذلك إلى تصحيح ما يقتضيه على مراتبه، كالسؤال عن الدلالة على النبوة فيقع الجواب بذكر المعجزة دون ما قبلها من الرتبة.
الثالث - أن تعاقب الضياء والظلام يدل على حدوث الاجسام.