التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١
وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
٢
وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
٣
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥
-الأحزاب

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابن كثير وابو عمرو، ونافع وأبو جعفر { اللاء } بهمزة ليس بعدها ياء، إلا أن ابا عمرو لين الهمزة. وقرأ ابن عامر واهل الكوفة بهمزة بعدها ياء، وقرأ { تظهرون } بفتح التاء مشددة الظاء بغير ألف - ابن كثير ونافع وابو عمرو - وقرأ عاصم إلا الكسائي عنه { تظاهرون } بضم التاء خفيفة الظاء والف بعدها. وقرأ ابن عامر بتشديد الظاء والألف وفتح التاء. فمن قرأ { تظاهرون } بتشديد الظاء اراد تتظاهرون، فأدغم احدى التاءين في الظاء. ومن قرأ بغير الف مشدداً اراد تتظهرون، وادغم احدى التاءين في الظاء، وعاصم جعل الفعل بين اثنين. فقال { تظاهرون } بضم التاء وتخفيف الظاء مع الالف. وقرأ ابو عمرو { بما يعملون خبيراً } و { بما يعملون بصيراً } بالياء فيهما. الباقون بالتاء. وجه قراءة أبي عمرو قوله { ولا تطع الكافرين والمنافقين } بأن الله يعلم ما يفعلونه، فيجازيهم بحسبه، ووجه التاء الخطاب لهم.
هذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به جميع الأمة كما قال
{ يا أيها النبي إذا طلقتم } فخصه بالخطاب، وأراد به جميع المكلفين، يأمرهم الله بتقواه، وتجنب معاصيه، وفعل طاعاته، فنهاهم عن طاعة الكافرين الذين يجحدون نعم الله ويتخذون معه إلهاً سواه، ومثل ذلك نهاه عن طاعة المنافقين ومتابعتهم لما يريدونه.
وسبب نزول الآية أن أبا سفيان وجماعة من الكفار قدموا على النبي صلى الله عليه وآله المدينة، ودعوه إلى اشياء عرضوها عليه، فأراد المسلمون قتلهم. فأنزل الله سبحانه { يا أيها النبي اتق الله } في نقض العهد، وقتل هؤلاء الكفار { ولا تطع الكافرين } في ما يدعونك اليه ولا { المنافقين } في قتلهم ونقض العهد. والمنافق هو الذي يظهر الايمان ويبطن الكفر، والكافر هو الذي يظهر الكفر ويبطنه.
ثم قال { إن الله كان عليماً حكيماً } في ما يوحيه اليك من أمرهم ويامرك بالطاعة وترك المعصية في متابعتهم في ما يريدونه ولما نهاهم عن متابعة الكفار والمنافقين قال { واتبع ما يوحى إليك من ربك } امره ان يتبع الذي يوحي الله اليه من أمره ونهيه، فعلى موجب هذه الآية لا يجوز لأحد أن يطيع الكفار والمنافقين، وإن دعوهم إلى الحق، ولكن يفعل الحق، لأنه حق لا لأجل دعائهم اليه { إن الله كان بما تعملون خبيراً } تهديداً لهم، لأن المراد أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بحسبها إن كان سوءاً عاقبكم، وإن كان طاعة أثابكم عليها. ومن قرأ - بالياء - أراد الاخبار عن الكفار والخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله. ومن قرأ - بالتاء - خاطب الجميع. ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين فقال { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً } أمرهم ان يتوكلوا على الله ويفوضوا أمورهم اليه، فان الله تعالى كاف في ما يوكل اليه. و (الوكيل) القائم بالتدبير لغيره بدعاء من له ذلك اليه، فالحكمة تدعو إلى أن الله تعالى القائم بتدبير عباده، فهو وكيل عليهم من أوكد الوجوه.
ثم قال تعالى { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } قال ابن عباس: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان، فاكذبهم الله. وقال مجاهد وقتادة، وهو في رواية عن ابن عباس: أنه كان رجل من قريش يدعى ذا القلبين من دهائه وهو أبو معمر جميل بن اسد، فنزلت هذه الآية فيه. وقال الحسن: كان رجل يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني، فأنزل الله فيه هذه الآية. وقال الزهري: هو مثل في ان هذا ممتنع كامتناع أن يكون ابن غيرك ابنك. وروي عن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه يحب بهذا قوماً ويحب بهذا اعداءهم. ولا يمكن أن يكون لانسان واحد قلبان في جوفه، لأنه كان يمكن أن يوصل إنسانان فيجعلان إنساناً واحداً، وقد يمكن أن يوصلا بما لا يخرجهما عن أن يكونا انسانين، وليس ذلك إلا من جهة القلب الواحد أن القلبين، لانه إذا جعل لهما قلبان يريد أحدهما بقلبه ما لا يريده الآخر ويشتهي ما لا يشتهي الآخر، ويعلم ما لا يعلم الآخر فهما حيان لا محالة، وليسا حياً واحداً. وقال الرماني: لا يجوز أن توجد الارادة والمعرفة في جزئين من القلب او أجزاء وانما يصح أن توجد في جزء واحد، قال: لان ما يوجد في جزئين بمنزلة ما يوجد في قلبين، وقد بطل أن يكون لانسان واحد قلبان. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لانه لا يمتنع أن يوجد معنيان مختلفان في جزئين من القلب، لانهما وإن وجدا في جزئين فالحالان الصادران عنهما يرجعان إلى الجملة وهي جملة واحدة وليسا يوجبان الصفة للمحل الواحد فيتنافى، فعلى هذا لا يجوز أن يوجد في جزئين من القلب معنيان ضدان، لاستحالة اجتماع معناهما في الحي الواحد، ويجوز أن يوجد معنيان مختلفان او مثلان في جزئين من القلب ويوجبان الصفتين للحي الواحد، وعلى هذا القياس ليس يمتنع ان يوجد قلبان في جوف واحد إذا كان ما يوجد فيهما يرجع إلى حي واحد، وانما المتنافي أن يرجع ما يوجد منهما إلى حيين، وذلك محال.
وقوله { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } أي ليس نساؤكم وأزواجكم إذا قلتم لهن أنتن علي كظهر أمي يصرن أمهاتكم على الحقيقة لان أمهاتكم على الحقيقة هن اللائي ولدنكم وأرضعنكم. وقال قتادة: إذا قال لزوجته أنت علي كظهر أمي، فهو مظاهر، وعليه الكفارة. وعندنا إن الظهار لا يقع إلا ان تكون المرأة طاهراً، ولم يقربها في ذلك الطهر بجماع، ويحضر شاهدان رجلان مسلمان، ثم يقول لها أنت علي كظهر أمي، ويقصد التحريم. فاذا قال ذلك حرم عليها وحرمت عليه أن يطأها حتى يكفر. وإن اختل شيء من شرائطه، فلا يقع ظهار أصلاً.
وقوله { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } قال قتادة ومجاهد وابن زيد: نزلت في زيد بن حارثة، فانه كان يدعى ابن رسول الله، والادعياء جمع دعي، وهو الذي تبناه الانسان. وبين الله تعالى أن ذلك ليس بابن على الحقيقة، ولذلك قال في آية أخرى
{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } وقوله { ذلكم قولكم بأفواهكم } يعني أن قولكم في الدعي أنه ابن الرجل قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له عند الله. ثم قال { والله يقول الحق } في ما يبينه { وهو يهدي السبيل } يعني طريق الحق الذي يفضي بكم إلى الثواب. ثم أمر المكلفين بأن يدعوا الادعياء { لآبائهم } الذين ولدوهم وينسبونهم اليهم أو إلى من ولدوا على فراشهم { أقسط } أي، فان ذلك اعدل عند الله، واقسط بمعنى أعدل { فإن لم تعلموا آباءهم } ولا تعرفوهم باعيانهم فهم { إخوانكم في الدين } أي في الملة فادعوهم بذلك { ومواليكم } أي بنو عمكم او لكم ولاءهم إذا كنتم اعتقمتموهم من رق. ثم قال { وليس عليكم جناح } اي حرج { في ما أخطأتم به } فنسبتموه إلى من انتمي اليه وإن الله لا يؤاخذكم به { ولكن ما تعمدت قلوبكم } فقصدتموه من ذلك واردتموه هو الذي تؤاخذون به، وموضع (ما) جر، تقديره ولكن في ما تعمدت قلوبكم { وكان الله غفوراً رحيماً } يغفر لكم ما لم تتعمدوا من ذلك، ويستره عليكم ويرحمكم بترك مؤاخذتكم به.