التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٧٠
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
٧١
إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
٧٢
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٧٣
-الأحزاب

التبيان الجامع لعلوم القرآن

امر الله تعالى المصدقين بوحدانيته المقرين بنبوة نبيه بأن يتقوا عقابه باجتناب معاصيه وفعل واجباته وأن يقولوا { قولاً سديداً } أي صواباً بريئاً من الفساد خالصاً من شائب الكذب والتمويه واللغو. وقوله { يصلح لكم أعمالكم } جزم بأنه جواب للأمر، وفيه معنى الجزاء. وتقديره: إن فعلتم ما امرتكم به يصلح لكم اعمالكم. وإصلاحه أعمال العباد أن يلطف لهم فيها حتى تستقيم على الطريقة السليمة من الفساد، وذلك مما لا يصح إلا في صفات الله تعالى، لانه القادر الذي لا يعجزه شيء العالم الذي لا يخفى عليه شيء { ويغفر لكم ذنوبكم } قيل: إنما وعد الله بغفران الذنوب عند القول السديد، ولم يذكر التوبة، لأن التوبة داخلة في الاقوال السديدة، كما يدخل فيه تجنب الكذب في كل الأمور فيدخل فيه الدعاء إلى الحق وترك الكفر والهزل واجتناب الكلام القبيح.
ثم قال { ومن يطع الله ورسوله } في ما أمراه به ونهياه عنه ودعواه اليه { فقد فاز فوزاً عظيماً } أي افلح فلاحاً عظيماً، لأنه يفوز بالجنة، والثواب الدائم. وقيل: معناه فقد ظفر بالكرامة من الله والرضوان، وهو الفوز العظيم.
ثم اخبر تعالى بأنه عرض الأمانة على السموات والأرض، فالامانة هي العقد الذي يلزم الوفاء به مما من شأنه أن يؤتمن على صاحبه، وقد عظم الله شأن الأمانة في هذه الآية وأمر بالوفاء بها، وهو الذي امر به في اول سورة المائدة وعناه بقوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وقيل في قوله { عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال } مع أن هذه الاشياء جمادات لا يصح تكليفها أقوال:
احدها - ان المراد عرضنا على اهل السموات واهل الارض واهل الجبال.
وثانيها - ان المعني في ذلك تفخيم شأن الأمانة وتعظيم حقها، وأن من عظم منزلتها انها لو عرضت على الجبال والسموات والأرض مع عظمها، وكانت تعلم بأمرها لأشفقت منها، غير انه خرج مخرج الواقع لانه ابلغ من المقدر،
وقوله { فأبين أن يحملنها } أي منعن ان يحملن الأمانة { وأشفقن منها } أي خفن من حملها { وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } أي ظلوماً لنفسه بارتكاب المعاصي، جهولا بموضع الامانة واستحقاق العقاب على ارتكاب المعاصي وقال ابن عباس: معنى الأمانة الطاعة لله، وقيل لها أمانة لأن العبد اؤتمن عليها بالتمكين منها ومن تركها. وقال تعالى
{ { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } فرغب في الأحسن، وزهد في تركه. وقيل: من الأمانة ان المرأة اؤتمنت على فرجها والرجل على فرجه ان يحفظاهما من الفاحشة. وقيل: الامانة ما خلق الله تعالى في هذه الاشياء من الدلائل على ربوبيته وظهور ذلك منها، كأنهم أظهروها والانسان جحد ذلك وكفر به. وفائدة هذا العرض إظهار ما يجب من حفظها وعظم المعصية في تضييعها.
وقيل معنى { حملها الإنسان } أي خانها، لأن من خان الأمانة فقد حملها وكذلك كل من اثم فقد حمل الاثم، كما قال تعالى
{ { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } وقال البلخي: يجوز ان يكون معنى العرض والاباء ليس هو ما يفهم بظاهر الكلام، بل انما أراد تعالى أن يخبر بعظم شأن الامانة وجلالة قدرها، وفظاعة خيانتها وترك ادائها، وانه اوجد السموات مع عظمها لا تحملها وإن الانسان حملها، وليس الانسان - ها هنا - واحداً بعينه، ولا هو المطيع المؤمن، بل هو كل من خان الأمانة ولم يرد الحق فيها، وحمل الانسان الأمانة هو ضمانة القيام بها وإداء الحق فيها، لان ذلك طاعة منه لله، واتباع لأمره والله لا يعتب على طاعته وما امر به ودعا اليه لكن معنى { حملها } انه احتملها ثم خانها ولم يؤد الحق فيها، كأنه حملها فذهب بها واحتمل وزرها، كما يقولون فلان أكل امانته أي خان فيها، والعرب تقول: سألت الربع، وخاطبت الدار فأجابني بكذا، وقالت كذا، وربما قالوا: فلم يجب، وامتنعت من الجواب. وليس هناك سؤال ولا جواب، وإنما هو اخبار عن الحال التي تدل عليه، وعبر عنه بذكر السؤال والجواب، كما قال تعالى { ائتيا طوعاً أو كرهاً } للسموات والارض { { قالتا أتينا طائعين } وهو تعالى لا يخاطب من لا يفهم ولا يعقل، وقال تعالى: { { لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً } ونحن نعلم ان السموات لم تشعر بما كان من الكفار وانه لا سبيل لها إلى الانفطار في ذات نفسها، ويقول القائل أتيت بكذب لا تحتمله الجبال الراسيات، قال الشاعر:

فقال لي البحر إذ جئته كيف يجيز ضرير ضريرا

وقال جرير:

لما اتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع

وقال آخر:

فاجهشت للتوباد حين رأيته وكبر للرحمن حين رآني
فقلت له أين الذين عهدتهم بجنبيك في حضن وطيب زمان
فقال مضوا فاستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

والتوباد جبل، وقال آخر:

امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويداً قد ملأت بطني

وقال بعض المحدثين:

يا قصر ويحك هل اوعيت من خبر فقال هل خبر أنبأ من العبر
قد كان يسكنني قوم ذو خطر بادوا على الدهر والأيام والغير
وقد أتاني وقرب العهد يذكرني منصور أمتكم في الشوك والشجر
حتى أناخ على بابي فقلت له أما كفاك الذي نبئت من خبري
إن لا اكن قلته نطقاً فقد كتبت به الحوادث في صخري وفي حجري
خطاً قديماً جليلاً غير ذي عوج يقرأ بكل لسان ظاهر الأثر
فحلني ثم أفناه الزمان ولم يطق دفاعاً لما قد حم من قدر
وكلهم قائل لي أنت لي ولمن خلفت من ولدي حظراً على البشر
فما تملى بنو الآباء بعدهم ولا هم سكنوا إلا على غرر

وقد قال بعض الحكماء: سل الارض من شق انهارك وغرس اشجارك وجنى ثمارك؟ فان لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً، والعرض على وجوه يقال: عرضت المال والعمل على فلان، فهذا بالقول والخطاب، وعرضت هذا الأمر على فكري البارحة، وهذا أمر إن عرض على العقول لم تقبله، ومنه قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون عرضت الحوض على الناقة و (الاباء) على وجوه: فمنه الامتناع وإن لم يكن قصد لذلك، ومنه ألا يصلح لما يريده، تقول: أردت سل سيفي فأبى علي. وتقول: هذه الأرض تأبى الزرع والغرس أي لا تصلح لهما، فعلى هذا يكون معنى قوله { فأبين أن يحملنها } أي لا تصلح لحملها، وليس في طباعها حمل ذلك، لانه لا يصلح لحمل الأمانة إلا من كان حياً عالماً قادراً سميعاً بصيراً. بل لا يلزم أن يكون سميعاً بصيراً، وإنما يكفي ان يكون حياً عالماً قادراً. وقال قوم: معناه إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات وأهل الارض واهل الجبال، كما قال { { فما بكت عليهم السماء والأرض } يعني اهل السماء واهل الارض، فأبوا حملها على أن يؤدوا حق الله فيها إشفاقاً من التقصير في ذلك { وحملها الإنسان } يعني الكافر جهلا بحق الله واستخفافاً بعرضه { إنه كان ظلوماً } لنفسه { جهولاً } بما يلزمه القيام بحق الله، وإنما قال { فأبين } ولم يقل: فأبوا حملا على اللفظ، ولم يرده إلى معنى الآدميين، كما قال { { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } وقوله { { فظلت أعناقهم لها خاضعين } حملا على المعنى دون اللفظ، وكل ذلك واضح بحمد الله.
ثم قال { ليعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } يعني بتضييع الأمانة، وقال الحسن وقتادة: كلاهما خانا الأمانة { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } بحفظهما الأمانة لانهما كليهما أديا الأمانة { وكان الله غفوراً رحيماً } أي ستاراً لعيوب خلقه رحيماً بهم في اسقاط عقابهم إذا تابوا ورجعوا إلى الطاعة.