التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
٣١
ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٣٢
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
٣٣
وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
٣٤
ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ
٣٥
-فاطر

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو عمرو { يدخلونها } بضم الياء على ما لم يسم فاعله ليشاكل قوله تعالى { يحلون }. الباقون بفتح الياء، لانهم إذا أدخلوها فقد دخلوها، والمعنيان متقاربان.
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله { والذي أوحينا إليك } يا محمد وأنزلناه عليك { من الكتاب } يعني القرآن { هو الحق } معناه هو الصحيح الذي معتقده على ما هو به. وضده الباطل، وهو ما كان معتقده لا على ما هو به. والعقل يدعو إلى الحق ويصرف عن الباطل، وقوله { مصدقاً لما بين يديه } معناه مصدقاً لما قبله من الكتب بأنه جاء موافقاً لما بشرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به. ثم قال { إن الله } تعالى بعباده { لخبير } أي عالم بهم { بصير } بأحوالهم لا يخفى عليه شيء منها فيجازيهم على استعمال الحق بالثواب وعلى استعمال الباطل بالنار. ثم قال { ثم أورثنا الكتاب } يعني القرآن أورثناه من أصطفيناه من عبادنا. ومعنى الارث انتهاء الحكم اليه ومصيره لهم، كما قال تعالى
{ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } وقيل المراد أورثناهم الايمان بالكتب السالفة وكان الميراث انتقال الشيء من قوم إلى قوم. والأول أصح. والاصطفاء الاختيار باخراج الصفوة من العباد، فاصطفى الله المؤمن يحمل على ثلاث طبقات مؤمن ظالم لنفسه بفعل الصغيرة، ومقتصد بالطاعات في المرتبة الوسطى، وسابق بالخيرات في الدرجة العليا، وهم الذين لم يرتكبوا شيئاً من المعاصي، وكل وعد الله الحسنى، والذين اصطفاهم الله وأورثهم الكتاب قيل: هم الانبياء فمنهم ظالم لنفسه يعني أصحاب الصغائر. وقيل: هم اصحاب النار، هذا من قول من أجاز على الانبياء الصغائر دون الكبائر، فأما من لا يجوز عليهم شيئاً من المعاصي أصلاً لا صغيرة ولا كبيرة يقول: معنى الآية إن الله تعالى أورث علم الكتاب الذي هو القرآن الذين اصطفاهم واجتباهم واختارهم على جميع الخلق من الانبياء المعصومين، والأئمة المنتجبين الذين لا يجوز عليهم الخطأ ولا فعل القبيح لا صغيراً ولا كبيراً، ويكون قوله { فمنهم ظالم لنفسه } راجعاً إلي (عباده) وتقديره فمن عبادنا ظالم لنفسه، ومن عبادنا مقتصد، ومن عبادنا سابق بالخيرات، لأن من اصطفاه الله لا يكون ظالماً لنفسه، فلا يجوز أن ترجع الكناية إلى الذين اصطفينا وقوله { بالخيرات } يعني يعلم من اقتصد او ظلم نفسه أو سبق بالخيرات.
ثم قال { ذلك هو الفضل الكبير } يعني السبق بالخيرات هو الفضل العظيم الذي لا شيء فوقه. وقال ابن عباس: الذين أورثهم الله الكتاب هم أمة محمد، ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسبهم حساباً يسيراً وسابقهم يدخلون الجنة بغير حساب. وقال ابن مسعود - بذلك - وكعب الاحبار. وقال الثلاث فرق - المذكورة في هذه الآية كلهم في الجنة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن المصطفين من هذه الأمة الأنبياء، والظالم لنفسه هو المنافق والمقتصد والسابق بالخيرات في الجنة. والمنافق في النار. وقال الحسن ومجاهد: السابق بالخيرات من جميع الناس، والظالم لنفسه أصحاب المشئمة، والمقتصد اصحاب الميمنة من الناس كلهم. وهذا مثل ما قلناه من ان الكناية راجعة إلى العباد دون المصطفين، وقال البلخي: الاصطفاء - ها هنا - التكليف دون الثواب، فعلى هذا يجوز أن ترجع الكناية إلى المصطفين.
ثم قال { جنات عدن } فرفع جنات على تفسير الفوز، كأنه قيل: ما ذلك الفوز؟ فقال هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات، ويجوز أن يكون بدلا من الفوز، كأنه قال ذلك جنات أي دخول جنات، والجنات هي البساتين التي يجنها الشجر، والعدن الاقامة { يدخلونها } يعني من تقدم ذكره من الذين سبقوا بالخيرات والمقتصدين { يحلون فيها } بمعنى يلبسون فيها الحلي { من أساور من ذهب } وأساور جمع اسوار، ومن قال سوار جمعه على أسورة { من ذهب ولؤلؤ } فيمن جر، ومن نصب { لؤلؤاً } وهو نافع وعاصم فعلى تقدير ويحلون فيها لؤلؤاً { ولباسهم فيها حرير } معناه إن ما يلبسه أهل الجنة من اللباس ابريسم محض.
ثم اخبر تعالى عن حال من يدخل الجنة أنهم إذا دخلوها { قالوا الحمد لله } أي اعترافاً بنعمة الله وشكراً له على نعمه، وهو الاعتراف منهم على وجه الالجاء، لهم في ذلك سرور لا على وجه التكليف { الذي أذهب عنا الحزن } ومعناه أذهب الغم عنا بخلاف ما كنا عليه في دار الدنيا، وقيل: الحزن الذي اصابهم قبل دخول الجنة، فانهم يخافون من دخول النار إذا كانوا مستحقين لها، فاذا تفضل الله عليهم بأن يسقط عقابهم ويدخلهم الجنة حمدوا الله على ذلك. وقيل: ما كان ينالهم في دار الدنيا من أنواع الاحزان والاهتمام بأمر المعاش والخوف من الموت وغير ذلك { إن ربنا لغفور شكور } لذنوب عباده إذا تابوا مجاز لهم على شكرهم لنعمه. وقيل: إن مكافاته لهم على الشكر لنعمه والقيام بطاعاته جرى مجرى أن يشكره لهم وإن كان حقيقة لا يجوز عليه تعالى. من حيث كان اعترافاً بالنعمة، ولا يصح عليه تعالى أن يكون منعماً عليه، ثم وصفوا الله تعالى بأن قالوا { الذي أحلنا } أي انزلنا دار المقامة يعني دار الاقامة وإذا فتحت الميم كان المراد موضع القيام قال الشاعر:

يومان يوم مقامات واندية ويوم سير إلى الاعداء تأويب

و { من فضله لا يمسنا فيها نصب } يعني تعب. وقال قتادة: معناه وجع { ولا يمسنا فيها لغوب } يعني اعياء. وقيل: اللغوب العناء. ومنه قوله تعالى { { وما مسنا من لغوب } }.