التفاسير

< >
عرض

فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ
٩١
مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ
٩٢
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ
٩٣
فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
٩٤
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ
٩٥
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
٩٦
قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ
٩٧
فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ
٩٨
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٩٩
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠٠
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ
١٠١
-الصافات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة والمفضل عن عاصم { يزفون } بضم الياء. الباقون بفتحها، وهما لغتان. وزففت اكثر. ويجوز أن يكون المراد زفّ الرجل في نفسه وأزف غيره، والتقدير فأقبلوا اليه يزفون أنفسهم.
قوله { فراغ إلى آلهتهم } معناه مال إليها بحدة، تقول: راغ يروغ روغاً وروغاناً مثل حاد يحيد حيداً وحيداناً، والرّواغ الحياد، قال عدي ابن زيد:

حين لا ينفع الرواغ ولا ينفع إلا الصادق النحرير.

وإنما مال اليها بحدة غضباً على عابديها، وقوله { إلى آلهتهم } معناه إلى ما يدعون أنها آلهتهم أي إلى ما اتخذوها آلهة لهم، كما تقول. للمبطل: هات حجتك مع علمك انه لا حجة له.
وقوله { فقال ألا تأكلون } إنما جاز ان يخاطب الجماد بذلك تهجينا لعابديها وتنبيها على أن من لا يتكلم ولا يقدر على الجواب كيف تصح عبادتها، فاجراها مجرى من يفهم الكلام ويحسن ذكر الجواب استظهاراً في الحجة وإيضاحاً للبرهان، لكل من سمع ذلك ويبلغه. وقوله { ما لكم لا تنطقون } معناه تهجينا لعابديها كأنهم حاضرون بها. وقوله { فراغ عليهم ضرباً باليمين } قيل في معناه قولان:
احدهما - انه مال عليهم بيده اليمنى، لانها اقوى على العمل من الشمال.
الثاني - بالقسم ليكسرنها، لأنه كان قال
{ { وتالله لأكيدن أصنامكم } وقال الفراء: اليمين القوة، ومنه قول الشاعر:

[إذ ما راية رفعت لمجد] تلقاها عرابة باليمين

أي بالقوة. وقوله { فاقبلوا اليه يزفون } قال ابن زيد: معناه يسرعون. وقال السدي: يمشون. وقيل: يتسللون بحال بين المشي والعدو، ومنه زفت النعامة، وذلك أول عدوها، وهو بين العدو والمشي، وقال الفرزدق:

وجاء فزيع الشول قبل أوانها تزف وجاءت خلفه وهي زفف

ومنه زففت العروس إلى زوجها، ومعنى يزفون يمشون على مهل، قال الفراء: لم أسمع إلا زففت، قال ولعل من قرأ بالضم اراد من قولهم طردت الرجل إذا أخسأته واطردته جعلته طريداً. وقرأ بعضهم { يزفون } يفتح الياء وتخفيف الفاء من (وزف، يزف) قال الكسائي والفراء: لا اعرف هذه إلا أن يكون احدهم سمعها. فلما رآهم ابراهيم صلى الله عليه وآله اقبلوا عليه قال لهم على وجه الانكار عليهم والتبكيت لهم بفعلهم { أتعبدون ما تنحتون } فالالف ألف الاستفهام ومعناها الانكار ووجه التوبيخ انه كيف يصح أن يعبد الانسان ما يعمله بيده! فانهم كانوا ينحتون الاصنام بأيديهم، فكيف تصح عبادة من هذه حاله مضافاً إلى كونها جماداً!. ثم نبههم فقال { والله } تعالى هو الذي { خلقكم } وخلق الذي { تعملون } فيه من الاصنام، لانها اجسام والله تعالى هو المحدث لها، وليس للمجبرة أن تتعلق بقوله { والله خلقكم وما تعملون } فتقول: ذلك يدل على ان الله خالق لافعالنا، لامور:
احدها - ان موضوع كلام ابراهيم لهم بني على التقريع لهم لعبادتهم الاصنام، ولو كان ذلك من فعله تعالى لما توجه عليهم العيب، بل كان لهم ان يقولوا: لم توّبخنا على عبادتنا للاصنام والله الفاعل لذلك، فكانت تكون الحجة لهم لا عليهم.
الثاني - انه قال لهم { أتعبدون ما تنحتون } ونحن نعلم أنهم لم يكونوا يعبدون نحتهم الذي هو فعلهم، وإنما كانوا يعبدون الاصنام التي هي الاجسام وهي فعل الله بلا شك. فقال لهم { والله خلقكم } وخلق هذه الاجسام. ومثله قوله
{ { فإذا هي تلقف ما يأفكون } ومثله قوله { { وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا } وعصا موسى لم تكن تلقف افكهم، وإنما كانت تتلقف الأجسام التي هي العصا والحبال.
ومنها ان (ما) في قوله { وما تعملون } لا يخلو من ان تكون بمعنى (الذي) او تقع مع بعدها بمنزلة المصدر، فان كانت بمعنى (الذي) فـ { تعملون } صلتها، ولا بد لها من عائد يعود اليها، فليس لهم أن يقدروا فيها ضميراً لها ليصح ما قالوه، لان لنا أن نقدر ضميراً فيه فيصح ما نقوله، ويكون التقدير: وما يعملون فيه، والذي يعملون فيه هي الاجسام وإن كانت مصدرية فانه يكون تقديره: والله خلقكم وعملكم، ونفس العمل يعبر به عن المعمول فيه بل لا يفهم في العرف إلا ذلك، يقال فلان يعمل الخوص، وفلان يعمل السروج، وهذا الباب من عمل النجار، والخاتم من عمل الصانع، ويريدون بذلك كله ما يعملون فيه، فعلى هذا تكون الأوثان عملا لهم بما يحدثون فيها من النحت والنجر، على أنه تعالى اضاف العمل اليهم بقوله { وما تعملون } فكيف يكون ما هو مضاف اليهم مضافا إلى الله تعالى وهل يكون ذلك إلا متناقضاً.
ومنها أن الخلق في أصل اللغة هو التقدير للشيء وترتيبه، فعلى هذا لا يمتنع أن نقول: إن الله خالق افعالنا بمعنى أنه قدرها للثواب والعقاب، فلا تعلق للقوم على حال.
ثم حكى تعالى ما قال قوم ابراهيم بعضهم لبعض فانهم { قالوا ابنوا له بنياناً } قيل: انهم بنوا له شبه الحظيرة. وقيل مثل التنور وأججوا ناراً ليلقوه فيها. والبناء وضع الشيء على غيره على وجه مخصوص، ويقال لمن رد الفرع إلى الأصل بناه عليه. { فألقوه في الجحيم } بمعنى اطرحوه في النار التي اججوها له. والجحيم عند العرب النار التي تجتمع بعضها على بعض.
ثم اخبر تعالى ان كفار قوم ابراهيم انهم { أرادوا به كيداً } وحيلة وهو وما ارادوا من إحراقه بالنار { فجعلناهم الأسفلين } بأن اهلكهم الله ونجا ابراهيم وقيل منع الله - عز وجل - النار منه بل صرفها في خلاف جهته، فلما أشرفوا على ذلك علموا انهم لا طاقة لهم به.
ثم حكى ما قال ابراهيم حين ارادوا كيده، فانه قال { إني ذاهب إلى ربي } ومعناه إلي مرضات الله ربي بالمصير إلى المكان الذي أمرني ربي بالذهاب اليه. وقيل: إلى الأرض المقدسة وقيل إلى ارض الشام. وقال قتادة: معناه { إني ذاهب إلى ربي } أي بعملي ونيتي، ومعنى { سيهدين } يعني يهديني في ما بعد إلى الطريق الذى امرني بالمصير اليه أو إلى الجنة بطاعتي إياه.
ثم دعا ابراهيم ربه فقال { ربي هب لي من الصالحين } يعني ولداً صالحاً من الصالحين، كما تقول: اكلت من الطعام، وحذف لدلالة الكلام عليه، فأجابه الله تعالى إلى ذلك وبشره بغلام حليم اي حليماً لا يعجل في الأمور قبل وقتها، وفي ذلك بشارة له على بقاء الغلام حتى يصير حليماً. وقال قوم: المبشر به اسحاق وقال آخرون اسماعيل، ونذكر خلافهم في ذلك في ما بعد.