التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
٥٦
-النساء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى واللغة:
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من جحد معرفته وكذّب أنبياءه، ودفع الآيات التي تدل على توحيده، وصدق نبيه أنه سوف يصليه ناراً لتدل على أن ذلك يفعله بهم في المستقبل، ولم يكن دخولها للشك، لأنه تعالى عالم بالأشياء لا يخفى عليه أمر من الأمور. ومعنى نصليه ناراً: نلزمه إياها تقول: أصليته النار: إذا القيته فيها، وصليته صلياً: إذا شويته: وشاة مصلية أي مشويه. والصلا الشواء. وصلي فلان بشر فلان. وصلي برجل سوء.
وقوله: { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها } قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الرماني: إن الله يجدد لهم جلوداً غير الجلود التي احترقت وتعدم المحترقة على ظاهر القرآن من أنها غيرها، لأنها ليست بعض الانسان. قال قوم هذا لا يجوز، لأنه يكون عذب من لا يستحق العذاب. قال الرماني: لا يؤدي إلى ذلك، لأن ما يزاد لا يألم، ولا هو بعض لما يألم، وإنما هو شيء يصل به الألم إلى المستخق له. وقال الجبائي: لا يجوز أن يكون المراد ان يزاد جلداً على جلده، كلما نضجت لأنه لو كان كذلك لوجب أن يملأ جسد كل واحد من الكفار جهنم إذا أدام الله العقاب، لأنه كلما نضجت تلك الجلود زاد الله جلداً آخر، فلا بد أن ينتهي إلى ذلك.
والجواب الثاني - اختاره البلخي والجبائي، والزجاج: ان الله تعالى يجددها بان يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة، كما يقال جئتني بغير ذلك الوجه وكذلك، إذا جعل قميصه قباء جاز أن يقال جاء بغير ذلك اللباس أو غير خاتمه فصاغه خاتماً آخر جاز أن يقال هذا غير ذلك الخاتم، وهذا هو المعتمد عليه.
والثالث - قال قوم: إن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله في قوله:
{ سرابيلهم من قطران } فأما الجلود فلو عذبت ثم أوجدت، لكان فيه تفتير عنهم، وهذا بعيد، لأنه ترك للظاهر وعدول بالجلود إلى السرابيل، ولا نقول إن الله تعالى يعدم الجلود بل على ما قلناه يجددها ويطريها بما يفعل فيها من المعاني التي تعود إلى حالتها، فأما من قال: إن الانسان غير هذه الجملة، وأنه هو المعذب، فقد تخلص من هذا السؤال. ويقوّي ما قلناه ان أهل اللغة يقولون: أبدلت الشيء بالشيء إذا أزلت عيناً بعين، كما قال الراجز:

عزل الامير بالامير المبدل

وبدلت - بالتشديد - إذا غيرت هيئة، والعين واحدة. يقولون: بدّلت جبتي قميصاً: إذا جعلنها قميصاً ذكره المغربي، وقال البلخي: ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يخلق الله لهم جلداً آخر فوق جلودهم، فاذا احترق التحناني أعاده الله.
وهكذا يتعقب الواحد الآخر قال: ويحتمل أن يخلق الله لهم جلداً لا يألم يعذبهم فيه، كما يعذبهم في سرابيل القطران.
فان قيل: كيف قال: { ليذوقوا العذاب } مع أنه دائم لازم؟ قيل: لأن احساسهم في كل حال كاحساس الذائق في تجدد الوجدان من غير نقصان، لأن من استمر على الأكل، لا يجد الطعم، كما يجد الطعم من يذوقه. وقوله: { إن الله كان عزيزاً حكيماً } معناه أنه قادر قاهر لا يمتنع عليه انجاز ما توعد به أو وعد، وحكيم في فعله لا يخلف وعيده، ولا يفعل إلا قدر المستحق به فينبغي للعاقل أن يتدبره، ويكون حذره منه على حسب علمه به ولا يغترّ بطول الامهال، والسلامة من تعجيل العقوبة.