التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً
٩٣
-النساء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
أخبر الله تعالى في هذه الآية ان من يقتل مؤمناً متعمداً يعني قاصداً إلى قتله ان جزاؤه جهنم خالداً فيها أي مؤبداً في جهنم وغضب الله عليه. وقد بينا ان غضب الله هو ارادة عقابه، والاستخفاف به. { ولعنه } معناه أبعده من ثوابه ورحمته { وأعد له عذاباً عظيماً } يعني لا يعلمون قدر مبلغه لكثرته واختلفوا في صفة قتل العمد، فعندنا أن من قصد قتل غيره بما يقتل مثله في غالب العادة سواء كان بحديدة حادة كالسلاح أو مثقلة من حديد أو خنق أو سم أو إحراق أو تفريق أو موالات ضرب بالعصا حتى يموت أو بحجارة ثقيلة فان جميع ذلك عمد يوجب القود، وبه قال ابراهيم، وعبيد بن عمير، والشافعي، وأصحابه، واختاره الطبري. وقال قوم: لا يكون قتل العمد إلا ما كان بحديد. ذهب إليه سعيد ابن المسيب، وابراهيم، والشافعي في رواية أخرى، وطاووس وأبو حنيفة وأصحابه غير أن عندنا أنه إذا قتله بغير حديدة فلا يستقاد منه إلا بحديدة. وقال الشافعي يستقاد منه بمثل ما قتل به فأما القتل شبيه العمد فهو ان يضربه بعصا أو غيرها مما لم تجر العادة بحصول الموت عنده، فاذا مات منه، كان شبيه العمد، وفيه الدية مغلظة في مال القاتل خاصة لا يلزم العاقلة. وقد بينا اختلاف الفقهاء في مسائل الخلاف في هذه المسألة. واستدلت المعتزلة بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة مخلد في نار جهنم. وأنه اذا قتل مؤمناً، فانه يستحق الخلود، ولا يعفى عنه بظاهر اللفظ. ولنا أن نقول: ما أنكرتم أن يكون المراد بالآية للكفار ومن لا ثواب له أصلا. فأما من هو مستحق للثواب، فلا يجوز أن يكون مراداً بالخلود أصلا، لما بيناه فيما مضى من نظائره. وقد روى أصحابنا أن الآية متوجهة إلى من يقتل المؤمن لايمانه، وذلك لا يكون إلا كافراً. وقال عكرمة، وابن جريج: إن الآية نزلت في انسان بعينه ارتد ثم قتل مسلماً، فانزل الله تعالى فيه الآية، لأنه كان مستحلا لقتله، على أنه قد قبل: إن قوله: { خالداً فيها } لا يفهم من الخلود في اللغة الاّ طول اللبث، فأما البقاء ببقاء الله، فلا يعرف في اللغة، ثم لا خلاف أن الآية مخصوصة بمن لا يتوب، لأنه إن تاب فلا بد من العفو عنه اجماعاً، وبه قال مجاهد. وقال ابن عباس: لا توبة له ولا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب. وبه قال ابن مسعود، وزيد بن ثابت والضحاك. ولا يعترض على ما قلناه قول من يقول ان قاتل العمد لا يوفق للتوبة، لأن هذا القول إن صح فانما يدل على أنه لا يختار التوبة. ولا ينافي ذلك القول بأنها لو حصلت، لا زالت العقاب. وإذا كان لا بد من تخصيص الآية واخراج التائبين عنها، جاز لنا أن نخرج منها من يتفضل الله عليه بالعفو على أن ظاهر الآية يتضمن أن جزاءه جهنم فمن أين أن ذلك لا بد من حصوله، وان العفو لا يجوز حصوله؟ وهذا قول أبي مجلز وأبي صالح. ولا يدفع ذلك قوله: { وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } لأن ذلك اخبار عن انه مستحق لذلك، فمن أين حصوله لا محالة؟ وقال الجبائي: الجزاء عبارة عما يفعل، وما لا يفعل لا يسمى جزاء. ألا ترى أن الأجير اذا استحق الاجرة على من استأجره، لا يقال في الدراهم التي مع المستأجر انها جزاء عمله؟! وانما يسمى بذلك اذا أعطاه إياها. وهذا ليس بشيء، لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل، أو لم يفعل الا ترى أنا نقول: جزاء من فعل الجميل أن يقابل عليه بمثله، وان كان ما فعل بعد؟ وانما يراد أنه ينبغي أن يقابل بذلك. ونقول: من استحق عليه القود، أو حد من الحدود إن جزاء هذا أن يقتل، أو يقام عليه الحد. ولو كان الامر على ما قالوه، لوجب ألا يكون الخلود في النار جزاء للكفار، لأنه لم يقع بعد، ولا يصح أن يقع، لأن ما يوجد منه لا يكون إلا متناهياً وانما لم يقل في الدراهم، إنها جزاء لعمله، لأن ما يستحقه الاجير في الذمة لا يتعين في دراهم معينة. وللمستأجر أن يعطيه منها، ومن غيرها. فلذلك لم توصف هذه المعينة بانها جزاء للعمل، ثم لنا أن نعارض بآيات الغفران، كقوله:
{ { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقوله: { { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } وقوله: { إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } }. وإذا تعارضا، وقفا وبقينا على جواز العفو عقلا. وقال الجبائي والبلخي: الآية نزلت في أهل الصلاة. لأنه تعالى بين في الآية الأولى حكم قتل الخطأ من الدية، والكفارة. وذلك يختص أهل الصلاة، ثم عقب ذلك بذكر قتل العمد منهم. وهذا ليس بصحيح، لأن لزوم الدية في الخطأ يتناول المسلم، والمعاهد. وأما الكفارات فان عندنا تلزمهم أيضاً لأنهم متعبدون بالشرائع. ولو سلمنا ان الآية الاولى تختص المسلمين، لم يلزم ان تختص الثانية بهم، بل لا يمتنع ان يراد بها الكفار على وجه الخصوص أو الكفار، والمسلمين على وجه العموم. غير انا قد علمنا انه لا يجوز ان يراد بها من هو مستحق الثواب، لأن الثواب دائم. ولا يجوز مع ذلك أن يستحق العقاب الدائم مع ثبوت بطلان الاحباط، لاجماع الآية على خلافه.