التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ
٢٦
وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ
٢٧
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
٢٨
يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ
٢٩
وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ
٣٠
-غافر

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب "او ان" بالف قبل الواو. الباقون "وأن" بغير الف. وقرأ نافع ويعقوب وابو جعفر وابو عمرو وحفص عن عاصم "يظهر" بضم الياء "الفساد" نصباً. الباقون "يظهر" بفتح الياء "الفساد" رفعاً. من نصب (الفساد) أشركه مع التبديل، وتقديره إني أخاف ان يبدل دينكم واخاف ان يظهر الفساد، ومن رفع لم يشركه، وقال تقديره إني اخاف ان يبدل دينكم، فاذا بدل ظهر في الأرض الفساد. وكلتا القراءتين حسنة فأما (او) فقد تستعمل بمعنى الواو، كما قلناه فى { { وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون } أي ويزيدون أو بل يزيدون. ولا تكون الواو بمعنى (او) في قول أبي عبيدة. وقال ابن خالويه إذا كانت (او) اباحة كانت الواو بمعناها، لأن قولك: جالس الحسن او ابن سيرين بمنزلة الاباحة، وكذلك قوله { { ولا تطع منهم آثما أو كفوراً } لان معناه ولا كفوراً. وقال ابو علي: من قرأ (وأن) فالمعنى إني أخاف هذا الضرب منه كما تقول كل خبزاً او تمراً أي هذا الضرب. ومن قرأ (وأن) المعنى إني اخاف هذين الأمرين وعلى الاول يجوز ان يكون الأمران يخافا، ويجوز أن يكون احدهما، وعلى الثاني هما معاً يخافان، ومن ضم الياء في قوله "ويظهر" فلأنه اشبه بما قبله، لان قبله يبدل فأسند الفعل إلى موسى وهم كانوا في ذكره، ومن فتح الياء اراد انه إذا بدل الدين ظهر الفساد بالتبديل او اراد يظهر الفساد بمكانه. وقال قوم: اراد بـ (او) الشك لان فرعون قال إني أخاف ان يبدل موسى عليكم دينكم، فان لم يفعله فيوقع الفساد بينكم، ولم يكن قاطعاً على احدهما به. وروي رواية شاذة عن أبي عمرو: انه قرأ "وقال رجل" باسكان الجيم. الباقون بضمها وذلك لغة قال الشاعر:

رجلان من ضبة اخبرانا إنا راينا رجلا عريانا

اراد رجلين فأسكن وهو مثل قولهم: كرم فلان بمعنى كرم.
حكى الله تعالى عن فرعون انه قال لقومه { ذروني } ومعناه أتركوني اقتل موسى، وذلك يدل على ان فى خاصة فرعون كان قوم يمنعونه من قتل موسى، ومن معه ويخوفونه ان يدعو ربه فيهلك، فلذلك قال ذروني اقتله وليدع ربه، كما تقولون. وقال قوم: ذلك حين قالوا له هو ساحر فان قتلته قويت الشبهة بمكانه بل
{ { أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين } { وليدع ربه } في دفع القتل عنه، فانه لا يخشى من دعائه شيء، وهذا عنف من فرعون وتمرد وجرأة على الله وإيهام لقومه بأن ما يدعو به موسى لا حقيقة له.
ثم قال فرعون { إني أخاف أن يبدل } يعني موسى { دينكم } وهو ما تعتقدونه من إلهيتي { أو أن يظهر في الأرض الفساد } بأن يتبعه قوم نحتاج ان نقاتله فيخرب في ما بين ذلك البلاد، ويظهر الفساد. وقال قتادة: الفساد عند فرعون ان يعمل بطاعة الله. فمن قرأ "او ان" فانه جعل المخوف احد الامرين وإن جعل (او) بمعنى الواو جعل الأمرين مخوفين معاً، ومن قرأ بالواو جعل المخوف الأمرين معاً: تبديل الدين وظهور الفساد. والتبديل رفع الشيء إلى غيره في ما يقع موقعه إلا انه بالعرف لا يستعمل إلا في رفع الجيد بالردي، والفساد انتقاض الأمر بما ينافي العقل او الشرع او الطبع، ونقيضه الصلاح. والاظهار جعل الشيء بحيث يقع عليه الادراك.
ثم حكى تعالى ما قال موسى عند ذلك فانه قال { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } والعياذ هو الاعتصام بالشيء من عارض الشر، عذت بالله من شر الشيطان واعتصمت منه بمعنى واحد. ومن أظهر ولم يدغم. قال: لان مخرج الذال غير مخرج التاء. ومن ادغم فلقرب مخرجهما، والمعنى اني اعتصمت بربي وربكم الذي خلقني وخلقكم من كل متكبر على الله متجبر عن الانقياد له لا يصدق بالثواب والعقاب فلا يخاف.
وقوله { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات } يعني الحجج الواضحة { من ربكم } قال السدي كان القائل ابن عم فرعون، فعلى هذا يكون قوله
{ { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } مخصصاً، وقال غيره كان المؤمن إسرائيلياً يكتم إيمانه عن آل فرعون، فعلى هذا يكون الوقف عند قوله { وقال رجل مؤمن } ويكون قوله { من آل فرعون } متعلقاً بقوله { يكتم } أي يكتم إيمانه من آل فرعون. والأول اظهر في اقوال المفسرين. وقال الحسن: كان المؤمن قبطياً. وقوله { وإن يك كاذباً فعليه كذبه } معناه إن المؤمن قال لفرعون إن يك موسى كاذباً في ما يدعوكم اليه فوبال ذلك عليه وان يك صادقاً في ما يدعيه يصيبكم بعض الذي يعدكم، قيل: انه كان يتوعدهم بأمور مختلفة، قال ذلك مظاهرة في الحجاج والمعنى انه يلقي بعضه. والمراد يصيبكم بعضه في الدنيا. وقيل: هو من لطيف الكلام، كما قال الشاعر:

قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل

ثم قال { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } أي لا يحكم بهداية من كان مسرفاً على نفسه ومتجاوز الحد في معصية الله كذاباً على الله. ويحتمل ان يكون المراد ان الله لا يهدي الى طريق الثواب والجنة من هو مسرف كذاب ويجوز ان يكون ذلك حكاية عما قال المؤمن من آل فرعون. ويجوز ان يكون ذلك ابتداء خبر من الله تعالى بذلك، ثم قال يعني مؤمن آل فرعون { ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا } أي لكم الملك والسلطان على اهل الارض وذلك لا يمنع من بأس الله { قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } في ما ادعوكم من الهيتي وتكذيب موسى. ثم حكى ما قال المؤمن فقال { وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم } عذاباً { مثل } عذاب { يوم الأحزاب } قال قوم: القائل لذلك موسى نفسه، لان مؤمن آل فرعون كان يكتم ايمانه، وهذا ضعيف لأن قوله هذا كقوله { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } وكما اظهر هذا جاز ان يظهر ذلك.