التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
١٦
ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ
١٧
يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
١٨
ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ
١٩
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
٢٠
-الشورى

التبيان الجامع لعلوم القرآن

يقول الله تعالى إن { الذين يحاجون في الله } أي يجادلون فى الله بنصرة مذهبهم { من بعد ما استجيب له } وقيل فى معناه قولان:
احدهما - من بعد ما استجاب له الناس لظهور حجته بالمعجزات التي اقامها الله - عز وجل - والآيات التي أظهرها الله فيه، لأنهم بعد هذه الحال فى حكم المعاندين بالبغي والحسد. قال مجاهد: كانت محاجتهم بأن قولوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن أولى بالحق منكم، فلذلك قال الله تعالى { حجتهم داحضة } لأن ما ذكروه لا يمنع من صحة نبوة نبينا بأن ينسخ الله كتابهم وما شرعه النبي الذي كان قبله.
والثاني - معناه من بعد ما استجيب للنبي دعاءه بالمعجزات التي اجاب الله تعالى دعاءه في إقامتها له. قال الجبائي: أجاب الله تعالى دعاءه فى كفار بدر حتى قتلهم الله بأيدي المؤمنين، وأجاب دعاءه عليهم بمكة وعلى مضر من القحط والشدائد التي نزلت بهم، وما دعا به من إنجاء الله المستضعفين من أيدي قريش فأنجاهم الله وخلصهم من ايديهم وغير ذلك مما يكثر تعداده، فقال الله تعالى { حجتهم داحضة عند ربهم } وهي شبهة، وإنما سماها حجة - على اعتقادهم - فلشبهها بالحجة أجرى عليها اسمها من غير اطلاق الصفة بها، و (داحضة) معناه باطلة { عند ربهم وعليهم غضب من الله } أي لعن واستحقاق عقاب والاخبار به عاجلا { ولهم } مع ذلك { عذاب شديد } يوم القيامة.
وقوله تعالى { الله الذي أنزل الكتاب } يعني القرآن { بالحق والميزان } فقوله { بالحق } فيه دلالة على بطلان مذهب المجبرة: بأن الله أنزله ليكفروا به واراد منهم الضلال والعمل بالباطل. وانزل { الميزان } يعني العدل، لان الميزان إظهار التسوية من خلافها في ما للعباد اليه الحاجة في المعاملة او التفاضل ومثل الموازنة المعارضة والمقابلة والمقايسة، فالقرآن إذا قوبل بينه وبين ما يدعونه، وقويس بينهما ظهرت فضيلته، وبانت حجته، وعلمت دلالته، فلذلك وصفه بالميزان. وقال مجاهد وقتادة: الميزان - ها هنا - العدل. وقال الجبائي: انزل الله عليهم الميزان من السماء وعرفهم كيف يعملون به بالحق وكيف يزنون به. وقيل: إن الحق الذي انزل به الكتاب وصفه على عقد معتقده على ما هو به من ثقة. والحق قد يكون بمعنى حكم ومعنى امر او نهي ومعنى وعد او وعيد ومعنى دليل.
وقوله { وما يدريك } يا محمد ولا غيرك { لعل الساعة قريب } إنما قال (قريب) مع تأنيث الساعة، لان تأنيثها ليس بحقيقي. وقيل: التقدير لعل مجيئها قريب. وإنما اخفى الله تعالى الساعة ووقت مجيئها عن العباد، ليكونوا على خوف ويبادروا بالتوبة، ولو عرفهم عنها لكانوا مغريين بالقبيح قبل ذلك تعويلا على التأني بالتوبة.
وقوله { يستعجل بها } يعني بالساعة { الذين لا يؤمنون بها } أي لا يقرون بها ولا يصدقون لجهلهم بما عليهم فى مجيئها من استحقاق العقاب وما للمؤمنين من الثواب. وقال { والذين آمنوا } أي صدقوا بها { مشفقون منها } أي خائفون من مجيئها لعلمهم بما فيها من استحقاق العقاب والاهوال فيحذرونها { ويعلمون أنها الحق } أي ويعلمون ان مجيئها الحق الذي لا خلاف فيه. ثم قال تعالى ألا إن الذين يمارون فى الساعة لفي ضلال بعيد أي يجادلون فى مجيئها على وجه الانكار لها لفي ضلال عن الصواب وعدول عن الحق بعيد.
ثم قال تعالى { الله لطيف بعباده } فلطفه بعباده إيصاله المنافع اليهم من وجه يدق على كل عاقل إدراكه، وذلك فى الارزاق التي قسمها الله لعباده وصرف الافات عنهم، وإيصال السرور اليهم والملاذ، وتمكينهم بالقدرة والآلات إلى غير ذلك من ألطافه التي لا تدرك على حقيقتها ولا يوقف على كنهها لغموضها. ثم قال تعالى { يرزق من يشاء وهو القوي } يعني القادر الذي لا يعجزه شيء { العزيز } الذي لا يغالب.
وقوله { من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه } قيل: معناه إنا نعطيه بالحسنة عشراً إلى ما شئنا من الزيادة { ومن كان يريد حرث الدنيا } أي من عمل الدنيا { نؤته } أي نعطيه نصيبه { منها } من الدنيا لا جميع ما يريده بل على ما تقتضيه الحكمة دون الآخرة، وشبه الطالب بعمله الآخرة بالزارع في طلب النفع لحرثه، وكذلك الطالب بعمله نفع الدنيا. ثم قال { وماله } يعني لمن يطلب الدنيا دون الآخرة { في الآخرة من نصيب } من الثواب والنعيم فى الآخرة. وقيل: إن الذي وعدهم الله به أن يؤتيهم من الدنيا إذا طلبوا حرث الدنيا هو ما جعل لهم من الغنيمة والفيء إذا قاتلوا مع المسلمين، لأنهم لا يمنعون ذلك مع إظهارهم الايمان لكن ليس لهم في الآخرة نصيب من الثواب.